عوالم السوريين

27 يناير 2016
لاجئون سوريون في لبنان (Getty)
+ الخط -
تغزو مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة صور لسوريين في مدن أوروبيّة مختلفة، سواء بعد الوصول إلى المقصد النهائي في ألمانيا والسويد وغيرها، أو في مدن متنوعة في دول العبور.

وقد تجد بينهم من لم يزر العاصمة دمشق في حياته، أو حتى أي مدينة أخرى خارج حدود محافظته، وها هو اليوم يتنقَّل، وحده أو مع عائلته، بين دولة وأخرى، مُجتازاً الحدود والأسلاك الشائكة وشرطة الحدود.

ليست هذه هي الهجرة السوريَّة الأولى، فقد سبقتها قبل قرن موجة الهجرة إلى الأميركيَّتين هرباً من "السفربرلك"، الذي كان يُلقِي بالشباب السوريين في محرقة حروب الدولة العثمانية. فتفاصيل الفاقة التي أصابت بلاد الشام وقتها، وعدد النازحين الكبير الذي وصل عام 1913 إلى عشرة آلاف سوري في مدينة نيويورك وحدها (وهو رقم ضخم بمعايير ذلك الزمن)، تشبه بشكل أو بآخر حال السوريين اليوم.

وبعد سقوط السلطنة، ودخول حقبة الانتداب الفرنسي، ومن بعده الدولة الوطنية المُتنازَع عليها بين السياسيين والعسكر، لم يعرف البلد موجة هجرة، بل هو استقبل النزوح الفلسطيني حينذاك.
في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ترافق انتصار النظام على المجتمع وسحق معارضيه، مع ارتفاع أسعار النفط بعد حرب تشرين، وحاجة الدول النفطيَّة العربيَّة لكوادر متعلمة. فعاش السوريون في سورية في ضيق وانغلاق بعد أن حاصرهم النظام تحت حجة محاصرة الغرب له، وأصبحت السلع الاستهلاكية بمثابة الحلم. أما المحظوظ الذي نال عقد عمل في الخليج فكان يأتي في إجازته كالسائح، ومُحمَّلاً بأجهزة كهربائيَّة وإلكترونيات حديثة، وبعضهم كان يركب السيارات الفخمة. فعاد حلم الهجرة يراود قلوب السوريين.

ومع بداية التسعينيات، صار للسوريين هجرتهم الجديدة، والوجهة هذه المرة هي لبنان. فالحرب الأهليَّة انتهت بالخضوع الكامل لهيمنة النظام السوري، ومشاريع إعادة الإعمار انطلقت بتمويل خليجي وقروض ضخمة، فتوافر المال مع شبكة المحاصصة السياسيّة الطائفيّة المتشاركة مع مسؤولين وضباط سوريين، وليتوافد مئات الألوف من أبناء أرياف المحافظات البائسة المنسيَّة إلى لبنان، والعمل في ورش بناء العاصمة بيروت، أو قطف المواسم الزراعية، أو كعمال نظافة وحراس عمارات ومبان، أي مارسوا أدنى أعمال السلم الاجتماعي، مدفوعين بالفقر المدقع الذي رزحت تحته غالبيَّة السوريين في الزمن الذي شهد أعلى مراحل الانفجار السكاني في سورية.
وقد ساعد فرق صرف العملة، حيث كان القبض في لبنان بالدولار، وقبول العمالة السوريَّة بالقيام بما يتعفَّف عن شغله عموم اللبنانيين، كما ساهمَ تسهيل المرور والإقامة في بقاء هذه العمالة حتى بعد تعثر الاقتصاد اللبناني، والدخول في نفق الركود.

كما لم يُعرف في أي يومٍ رقمٌ محدد للوجود السوري غير العسكري في لبنان، فالعمال والمزارعون الموسميون لم يسجلوا في الضمان. غير أن المعارضة اللبنانية للنظام السوري اعتمدت رقم "المليون" كعدد ذي غاية تحريضية، وحمّلته وزر مشاكل البلد الاقتصادية! فانتهت هذه الموجة بهروب جماعي، ترافق مع انسحاب الجيش السوري بعد اغتيال رفيق الحريري.

ولأنَّه لم يكن هناك مكان للعائدين في دورة الاقتصاد السوري البائس أصلاً، توجَّه قسم منهم إلى دبي. ورغم عدم توقف سعي السوريين للعمل في الخليج مذ بدأت دوله باستقبال العمالة. إلا أنَّه مع تسارع معدلات التنمية والطفرة العقارية لدبي وشقيقاتها، استقطبت أرقاماً متزايدة منهم. وعلى عكس لبنان، كانت العمالة غير الماهرة من نصيب الآسيويين (هنود وباكستان وأفغان)، بينما عمل السوريون غالباً كعمالة ماهرة في مجالات متنوعة كالمبيعات والمحاسبة والطب والهندسة وغيرها.

فبات مألوفاً اليوم أن تلتقي سورياً، عمل في بيروت لعقد، وفي الخليج لعقد آخر، وانتهى به المطاف في أوروبا، عالم السوري الجديد.


اقرأ أيضاً: سوريون في إسبانيا
المساهمون