عن موت الربيع المغربي

24 يناير 2017
+ الخط -


"تحتاج الإنسانية، إلى مجموعة جديدة، من الحالمين لتشكيل أسمى طموحاتها".  هذه الجملة المعبرة ختم بها الكاتب الأميركي الإيراني والأستاذ بجامعة كلومبيا إحدى مقالاته الجميلة، والتي عنونها 
بـ "ميرسي مسيو باديو".

استعرت هذا المقطع لشدة الاستفزاز الذي انتابني من عناوين بعض افتتاحيات الصحف المغربية، والتي اعتمدت عبارات من قبيل  نهاية الأمل، وموت الديمقراطية المغربية، وقتل الربيع المغربي ..إلخ.

رغم التقدير لأصحابها، ورغم اختلاف دوافعهم في الكتابة، واختلاف تقديرهم للمواقف، فإن الحديث عن المسألة السياسية في بلدنا يعرف تسطيحًا كبيرًا، حيث لا يمكن أن نحول مقالاتنا لاستشارة غير مباشرة لمن يهمه الأمر، أو نحولها لصفحة تروم التهويل والبكاء.

لا يمكن للكتابة عندنا أن تصير حبيسة اختيارات حزبية، وإن كان لها الحق في الميل لأيها أرادت، والتعبير عمن تمثلهم للفعل السياسي في البلد، كصوت غير مباشر لهذا الحزب أو ذاك، لكن يمكنها بالمقابل أن تكتب بأفق يخالف التوقعات، والأهم في المسألة أن تدفعنا دوماً في ما يخص مسار التحول الديمقراطي في بلدنا، لأن نفكر ونفكر في الخيارات الممكنة.

أن نفكر في السيناريوهات، أن نفكر في دورنا الذي قمنا به والذي لم نقم به، وأن تفتح شهيتنا للعب وتوسع أفقنا في المراهنة دوماً، أن تشجعنا لنفكر في المستقبل، وألا نتوقف عن التفكير في المستقبل. 


لست أمارس أستاذية على أحد هنا، أو أضع قواعد للكتابة، فالمسألة أكبر من ذلك. إنها نقاش حول نمطنا في التفكير عندما نكتب، وأفق توقعاتنا السياسية اليوم ؟!

أعتقد أن ما نعيشه رغم ظاهر الانسداد السياسي الراهن، فإنه في نظري فرصة للتفكير، مُنحناها عن غير قصد من المانحين، هي هبة التجربة حينما تعتمل فيها بعض قواعد اللعبة السياسية. لكن التفكير في ماذا؟ 


الجواب بسيط في نظري ولا يقتضي منا إلا الانسجام وروح جيل الربيع اليوم، روحنا التي ابتعدت عن انسدادات الرؤية الضيقة للإيديولوجيا، وابتعدت عن الكراهية والحقد المأزوم إيديولوجيًا تجاه توجهات معينة أو أفكار بعينها.


فقيمة أن نكون أبناء هذه اللحظة تكمن في قدرتنا على التجاوز وفق تحديد زمني مختلف، بات متسارعًا جدًا، ويصعب لأي كان أن يحصرنا في خانة من خاناته الضيقة. 

لهذا، فكثير من الأشياء ينبغي لنا ملاحظتها في ما يحصل سياسياً داخل بلدنا اليوم، بعيداً عن كيل التهم لرئيس الحكومة، أو كيل التهم التاريخية والسباب للنظام، فهناك ما يدعونا للنظر ومعاودة النظر، لا للحسم أو الحكم، وإنما أولاً، الفهم والتحليل واكتساب معرفة وليدة حراك وتجربة سياسية، رغم قصرها. 

إذاً، حسب هذا الأفق، فالذي استرعى تفكيري يمكن تصنيفه كالآتي: 

أولاً، التفكير في فهمنا لـ "البراغماتية" السياسية، ولنقل تحديداً تلك التي انتهجها السيد رئيس الحكومة السابق وحزبه، والتي وشحها لباس "الإصلاح في ظل الاستقرار"، هذه الأخيرة حسب تصور أصحابها وباختصار شديد تروم الإصلاح بعيد الأمد على وقع كسب ثقة القصر وأصحاب القرار.


نعم هو عين العقل بالنسبة لحزب إسلامي يعايش إخوانه من الإسلاميين الكثير من المحن والفشل، ولذلك فبراغماتيته مقصودة وفيها من الاضطرار الشيء الكثير، قد تمنحها التجربة نضجاً أكبر، وقد تبعدهم إلى غير رجعة.


ولذلك فهمنا السياسي
 للبراغماتية يعني أن لا أبين عن حسن النية، وأؤكد عليه فحسب، كما كان يصر بنكيران رغم النقد الذي يكيله له كثير من قواعد الحزب وكثير من الفئات الاجتماعية والفاعلين السياسيين.


لكن رغم ذكاء الرجل ونباهته وتكيفه الفريد، إلا أن البراغماتية ليست توافقاً عرضياً للإرضاء فحسب، وإلا فإن مبرر الخوف من الإسلاميين سيظل الشبح الذي يستحضره معارضوهم دوماً لإخراجهم من دائرة القرار، أليست البرغماتية قد تعني الدخول في توافق مع من صورهم في المخيال السياسي الجمعي كأعداء للديمقراطية وللحرية ؟


أن تجرّ غيرك وهو متوافق معك نسبياً إلى دائرة اللعب السياسي المكشوف والديمقراطي، فذلك عين البراغماتية التي تخدم المصالح المتبادلة هنا، ولهذا لم أستغرب أن يسير الباحث محمد جبرون في خيار أن تصل براغماتية العدالة والتنمية نهاياتها وتسابق أفق التوقع عند غيرهم.


فالرجل هنا لم يخالف القاعدة، والنقاش هنا أكبر من أن ينحصر في حزب بعينه كالأصالة والمعاصرة، كما يحلو لِكثيرين تضييق خانة النقاش فيه، وإلا فمن يكون حزب الأحرار، ومن يكون الحركة الشعبية، والاتحاد الاشتراكي نفسه
!!.


واضح هنا أننا نتساءل على وقع الخانة التي حيز فيها حزب المصباح، فصار أمام خيارات ضيقة، ولنفترض أنها كذلك، بينما كان من الممكن أن يسابق مساره تجنبًا للانحسار في هذا الوضع.

حتى عندما نقيس الأمر بما سبقت إليه التجربة التونسية فالتشبيك في المصالح والبدء في تجسير المسافات بين الفاعلين والقوى السياسية الحاكمة مسألة ينبغي دومًا السبق إليها. فمهما سابقنا إرادتنا فالحكم دوماً توافقي مشترك، ينبغي الأخذ بعين الرعاية كل الأطراف فيه، وإن أظهرت بعدها أو ضعفها.

وحزب النداء التونسي دليل واضح، مع الحفاظ على عناصر الاختلاف طبعاً بين التجربتين، ولهذا، تبقى مراحل الانتقال الديمقراطي من أعقد المراحل السياسية في تاريخ الأمم، وأكثرها طلبًا للخصوصية رغم الاستفادة الواجبة بين التجارب المختلفة، لكن في النهاية لكل تجربة خصوصيتها السياسية وخياراتها الواقعية. 

ثانياً، لا يمكننا بالمقابل أن نمنع الشباب أمام الصورة المخالفة لما سبق الحديث عنه أعلاه من التفكير في "الملكية البرلمانية" كخيار حاسم لهذا الجدل، هو خيار من دون شك سيزيد من إلحاحيته، النظرة التي ترى في خيار المشاركة وفق هذه القواعد غير الواضحة تضييعاً للجهود والأعمار.

لكن، هل بالفعل خيار المشاركة استنفد كل إمكاناته؟ أليس للصورة دائماً أوجه أخرى كما علقنا أعلاه، فلا يمكن أن تخطئ الأعين توارد جيل جديد على الفعل السياسي وإن باحتشام كبير، ورغم قلتهم فإنهم يقدمون نموذجاً لا يمكنه أن يشبه التجارب السابقة مهما طغت سلبياته؟.

كذلك، ألسنا أمام تحدٍ من الطبيعي أن تسلمنا له دفاعية الجيل السابق ودفاعية أصحاب القرار والفاعلين على اختلافهم وهم يحمون مصالحهم مما يعتقدونه مهدداً لها؟ الخلاصة أن اللعبة ليست ممتعة دوماً، أو متعتها في التوافق بعد جهد وتفكير واشتغال، وبعد عسر في الحلول كذلك.

لا أريد أن أثقل القارئ بهواجسي، وإنما رغبت في مشاركة التفكير مع من هم من جيلي، من يهمهم التفكير في ما يمكن تحصيله عبر هذه التجربة، بقصد الاستفادة، وتقرير خلاصات تهم الجميع من دون استثناء، وللحديث بقية.

 

 

90B07B72-ECA0-4CEE-AE30-DE797621F18A
عبدالله هداري

كاتب وباحث مغربي يقول: "فعل الكتابة بعد الثورات يعكس قدرتنا أن نوقع تغييراً وأن نغاير معطيات اليأس الذهني/الواقعي، المتحكمة فينا لعقود، ونخلق عوالمنا الممكنة/الجديدة".