06 نوفمبر 2024
عن صراعاتنا وعنهم
غدت منطقة الشرق الأوسط، ومنطقتنا العربية في القلب منها، أقل مناطق العالم استقراراً، وأكثرها إنتاجاً للعنف، بدليل أن نصف عدد اللاجئين والنازحين في العالم اليوم، والبالغ، بحسب الأمم المتحدة، 66 مليون إنسان يأتون منها. وقد طرأ تغير كبير على طبيعة الصراعات في المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة، ففيما كانت الحروب بين الدول تمثل السمة البارزة للصراعات فيها، خصوصا بعد قيام إسرائيل واحتلالها فلسطين، حيث وقعت، منذ ذلك الحين، خمس حروب عربية - إسرائيلية (1948، 1956، 1967، 1973، 1982)، إضافة إلى الحرب العراقية - الإيرانية التي استغرقت ثماني سنوات (1980-1988) والغزو العراقي للكويت عام 1990، والغزو الأميركي للعراق عام 2003، فقد غدت أكثر الصراعات، منذ ذلك الوقت، داخلية الأسباب والساحات، وإن كانت سرعان ما تتحوّل إلى حروب وكالة، تنجذب إليها قوى إقليمية ودولية، إما طمعاً في زيادة نفوذها على حساب خصومها، أو مدفوعة بالقلق من أن تنعكس آثار أزمة الجوار على أمنها واستقرارها الاقتصادي والاجتماعي. ونتيجة التنافس الإقليمي والدولي الشديد في الحروب الأهلية، والاستثمار الكبير في دعم أحد الأطراف، فإن بعضها قد يتحول من حروب وكالة إلى تدخلات عسكرية دولية مباشرة، كما حصل مع التدخل الروسي في سورية عام 2015، والتدخل السعودي - الإماراتي في اليمن عام 2016.
وعليه، تجري الصراعات في منطقتنا العربية على مستويين. داخل الدول وبين الدول (حروب وكالة أو مواجهات مباشرة)، وتتغذى هذه الصراعات على بعضها، ولها امتداداتها في الاتجاهين، بحيث يصعب أحياناً رسم حدود فاصلة بينها، فقد نجد في دولةٍ ما أن الحكومة فيها تدعم تياراً في صراع داخلي، يجري في دولة جارة، فيما تدعم المعارضة تيارا آخر (كما في تركيا مثلا عندما دعمت الحكومة المعارضة السورية، فيما كانت المعارضة التركية أكثر ميلا إلى النظام السوري)، وهذا يجعل احتمال انتقال صراع أهلي من دولة إلى أخرى كبيراً، والمعروف أن أحد أهم دوافع الانقلاب العسكري التركي في العام 2016 كان موقف الحكومة من الصراع في سورية.
لهذا، باتت الصراعات الأهلية اليوم التهديد الأكبر لاستقرار المنطقة وأمنها، ليس فقط لأنها غدت السمة الغالبة للصراعات فيها، بل أيضا لأن آليات حلها ضعيفة، إن لم تكن غائبةً مقارنة بالصراعات بين الدول، كما أن قوانين الصراع فيها تكاد تكون غير موجودة، حيث تستبيح أطرافها كل شيء، وتستخدم كل الوسائل لهزيمة الخصم. فوق ذلك، يكون حجم التدخلات الدولية والإقليمية في هذا النوع من الصراعات كبيرا، بحيث تُسلب الأطراف المحلية المتصارعة قرارها، حتى إذا هي تعبت ورغبت في وقف القتال لا يعود الأمر بيدها. لهذه الأسباب، تكون الحروب الأهلية عادة أكثر دمويةً وأطول عمراً وأكثر صعوبةً في إيجاد حلول لها.
وتنبع أكثر الصراعات الداخلية من غياب الحكم الرشيد، وتركز الثروة والسلطة في يد القلة، وسوء توزيع الموارد، وغياب التمثيل العادل. وتنفجر الصراعات المجتمعية، عندما يحصل تحول في موازين القوى داخل المجتمع، أو يظن أحد الأطراف أن هناك تحولا في هذه الموازين، بما يسمح بالتحرك لتغيير الوضع القائم. لذلك، يخطئ معظمنا عندما يظن أن السلم الأهلي معطى طبيعي، يقوم بذاته، ويعتمد استمراره على حكمة البشر وسلوكهم العقلاني، في حين أن الحفاظ عليه يتطلب عملا مستمرا لمعالجة الاحتقانات والتناقضات المجتمعية، قبل أن تستفحل وتتحول إلى صراعات يصعب احتواؤها، وحتى أكثر المجتمعات استقرارا معرّضة للدخول في صراعات شديدة، إذا لم يبذل الجهد الكافي للحفاظ على السلم الأهلي.
من هذا المنطلق، لم تعد القضايا المتصلة بالحكم وحقوق الإنسان وتوزيع السلطة والثروة مسائل داخلية، تحتكر القرار فيها نظم الحكم الوطنية، بداعي الحفاظ على السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وطالما غدت الصراعات الداخلية الناجمة عن سوء الإدارة داخل الدول السمة الأبرز للصراعات على الساحتين، الإقليمية والدولية، وباتت من ثم تمثل التهديد الأكبر للسلم والاستقرار العالمي، فمن المتوقع أن قضايا الحكم والإدارة داخل الدول باتت محل اهتمام دولي. الغريب أنه، وعلى الرغم من إدراك الجميع ذلك، إلا أن هذا لم يؤثر، لا في سلوك نظم الحكم العربية، الحريصة على "سيادتها"، ولا القوى الإقليمية والدولية الحريصة على "أمنها".
وعليه، تجري الصراعات في منطقتنا العربية على مستويين. داخل الدول وبين الدول (حروب وكالة أو مواجهات مباشرة)، وتتغذى هذه الصراعات على بعضها، ولها امتداداتها في الاتجاهين، بحيث يصعب أحياناً رسم حدود فاصلة بينها، فقد نجد في دولةٍ ما أن الحكومة فيها تدعم تياراً في صراع داخلي، يجري في دولة جارة، فيما تدعم المعارضة تيارا آخر (كما في تركيا مثلا عندما دعمت الحكومة المعارضة السورية، فيما كانت المعارضة التركية أكثر ميلا إلى النظام السوري)، وهذا يجعل احتمال انتقال صراع أهلي من دولة إلى أخرى كبيراً، والمعروف أن أحد أهم دوافع الانقلاب العسكري التركي في العام 2016 كان موقف الحكومة من الصراع في سورية.
لهذا، باتت الصراعات الأهلية اليوم التهديد الأكبر لاستقرار المنطقة وأمنها، ليس فقط لأنها غدت السمة الغالبة للصراعات فيها، بل أيضا لأن آليات حلها ضعيفة، إن لم تكن غائبةً مقارنة بالصراعات بين الدول، كما أن قوانين الصراع فيها تكاد تكون غير موجودة، حيث تستبيح أطرافها كل شيء، وتستخدم كل الوسائل لهزيمة الخصم. فوق ذلك، يكون حجم التدخلات الدولية والإقليمية في هذا النوع من الصراعات كبيرا، بحيث تُسلب الأطراف المحلية المتصارعة قرارها، حتى إذا هي تعبت ورغبت في وقف القتال لا يعود الأمر بيدها. لهذه الأسباب، تكون الحروب الأهلية عادة أكثر دمويةً وأطول عمراً وأكثر صعوبةً في إيجاد حلول لها.
وتنبع أكثر الصراعات الداخلية من غياب الحكم الرشيد، وتركز الثروة والسلطة في يد القلة، وسوء توزيع الموارد، وغياب التمثيل العادل. وتنفجر الصراعات المجتمعية، عندما يحصل تحول في موازين القوى داخل المجتمع، أو يظن أحد الأطراف أن هناك تحولا في هذه الموازين، بما يسمح بالتحرك لتغيير الوضع القائم. لذلك، يخطئ معظمنا عندما يظن أن السلم الأهلي معطى طبيعي، يقوم بذاته، ويعتمد استمراره على حكمة البشر وسلوكهم العقلاني، في حين أن الحفاظ عليه يتطلب عملا مستمرا لمعالجة الاحتقانات والتناقضات المجتمعية، قبل أن تستفحل وتتحول إلى صراعات يصعب احتواؤها، وحتى أكثر المجتمعات استقرارا معرّضة للدخول في صراعات شديدة، إذا لم يبذل الجهد الكافي للحفاظ على السلم الأهلي.
من هذا المنطلق، لم تعد القضايا المتصلة بالحكم وحقوق الإنسان وتوزيع السلطة والثروة مسائل داخلية، تحتكر القرار فيها نظم الحكم الوطنية، بداعي الحفاظ على السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وطالما غدت الصراعات الداخلية الناجمة عن سوء الإدارة داخل الدول السمة الأبرز للصراعات على الساحتين، الإقليمية والدولية، وباتت من ثم تمثل التهديد الأكبر للسلم والاستقرار العالمي، فمن المتوقع أن قضايا الحكم والإدارة داخل الدول باتت محل اهتمام دولي. الغريب أنه، وعلى الرغم من إدراك الجميع ذلك، إلا أن هذا لم يؤثر، لا في سلوك نظم الحكم العربية، الحريصة على "سيادتها"، ولا القوى الإقليمية والدولية الحريصة على "أمنها".