عن صاحب المرايا والمتاهات

03 سبتمبر 2015
الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (Getty)
+ الخط -
متأخرة قرأت للكاتب الأرجنتيني، خورخي لويس بورخيس، وكانت المرايا والمتاهات بدايتي معه، أتذكر أني استلفت الكتاب من إحدى الصديقات بالسكن الجامعي ليرافقني على مدى سبعة أيام عطلة، لم أستطع أن أعود فيها إلى بيتنا في الجنوب، اليوم كلما اصطدمت بي أو بما حولي أهرب إلى عوالم بورخيس، عند ذلك الرجل الغاضب والمتطرف أجد الكثير من السلام، وربما الإيمان الكثير أيضاً، أقول المتطرف والغاضب، ربما لأني وجدت رجلاً استطاع أن يجعل من الكتابة عصا سحرية يقلب بها فوضى العالم ليصنع عوالم أخرى تتحدى فوضى العالم.


تمر هذه الأيام ذكرى ميلاده المائة وستة عشر، لأسجل إعجابي به مراراً وتكراراً، ليس لأنه كاتب يستطيع أن يقودك عبر اللغة ويجعلك تفتح قلبك وعقلك وكل حواسك إنصاتاً له، وليس لأنه سارد بارع في حبك قصصه وحكاياته.. إعجابي ببورخيس كقارئ قبل أن يكون كاتباً -نعم بورخيس وعبر كتاباته المختلفة بيّن أنه قارئ وقارئ جيد- استطاع ان يلتهم مكتبات وتاريخاً كاملاً دون أي شعور بالشبع.

وأنا أقرأ بورخيس صرخت مرات ومرات بيني وبيني "لي على هذه الأرض ثلاثون عاماً ومازلتُ أجهلني"، لم أقرأ بعد شيئاً من تاريخي، وإن حدث وحاصرني أحدهم بسؤال سألجأ إلى صديقي غوغل ليتولى البحث والتدقيق عني، بورخيس استطاع ان يقرأ التاريخ، وخصوصاً العربي ومزجه مع عناصر التخيل وموضوع الحكاية بطريقة غريبة ومدهشة يعيد طرحه ليخلق عالماً آخر جديداً، يقول في كتابه "مرايا ومتاهات" في القصة الرابعة "بحث ابن رشد" وهو يحاول استحضار اللحظة الإبداعية التي قادت ابن رشد إلى كتابة الفصل الحادي عشر من كتابه "تهافت التهاتف" الذي جاء رداً على الغزالي "تهافت الفلاسفة".

يقول: "شعرت أن الأثر يسخر مني، وأن ابن رشد حينما أراد أن يتخيل ماهي المسرحية دون أن يرتاب فيما هو المسرح، لم يكن أكثر عبثاً مني وأنا الذي أريد تخيل ابن رشد دون أن تكون لدي مادة عنه عدا ذلك النزر اليسير الموجود لدي".

هنا نستطيع أن نتبين هذه القدرة الهائلة على اختراق عوالم ابن رشد من بورخيس وإعادة تدوينها وفقاً لتكامل عناصر الموجود التاريخي والقوة التخيلية والقوة الإبداعية كسارد قادر على إعادة تشكيل التاريخ وفق سردية تسمح للقارئ بملامسة التاريخ عبر مساحات إبداعية شاسعة. 
يقول، أيضاً، في ختام قصته عن ابن رشد: "في اللحظة التي أتوقف عن الإيمان به.. يختفى ابن رشد".

بورخيس الذي يجعل عالمين ضدين كالحلم واليقظة يلتقيان ليلدا عالماً يسمى "دهشة" أو "عالم بورخيس" إن صح التعبير، يحقن القارئ بقلقه ويجعله في مواجهته إلى أن يصل سلامه الخاص في آخر القصة (قصته الآخر مثلاً، قلق لا يكاد ينتهي منه ليعاد الدخول فيه بطريقة ما).

بورخيس يحيا بالكتابة أو في تلك المساحات التي يخلقها عبر الكتابة، وهو ما أكده هو بنفسه في ملحق "بورخيس وأنا" حين يقول: "فأنا أحيا وأترك نفسي تحيا كي يستطيع بورخيس حبك أدبه.. وهذا الأدب يبررني". هكذا تصبح الكتابة تبرر لكيان إنساني تفضحه أحياناً وتستره أحياناً أخرى.

بورخيس لا يمنحك متعة القراءة عبر مساحاتها الشاسعة من التخيل والتشويق والدهشة فقط، بل هو يحرض القارئ على البحث والذهاب للتاريخ وقراءته كنوع من التصالح بيننا وبين الموروث، يجعله يطرح الأسئلة ويواجه قلقه الداخلي والخارجي، وعلى الرغم من أن الترجمات التي طاولت كتابات بورخيس ليست جيدة كفاية، بل إن بعضها متعب، وأيضاً صعوبة وصولها إلى القراء، خصوصاً في منطقة المغرب العربي، إلا أن الداخل لعوالم بورخيس لن يستطيع مفارقته، سيظل يلجأ إليه كمصدر تاريخي وكاتب بارع في إدهاش قارئ عبر عوالم الكتابة وفنونها وعوالم أومتاهات بورخيس ذاته كإنسان قلق يستطيع أن يدعوك لمبارزة ذاتك والانتصار عليها في أحيان كثيرة.

(تونس)
المساهمون