عن شمسنا التي طلعت من المغرب

08 يناير 2015
كشف لنا هؤلاء الأبطال عورة أنظمتنا التي أخافتنا طويلاً(أ.ف.ب)
+ الخط -

قبل أربع سنوات، كانت تونس في عينيّ صورةً مشوّشةً مُغبّشة، كحال كثيرٍ من الشباب المشرقيّ، بلدٌ تعرّض لتغريبٍ مجنون، بآلة قمعٍ بوليسيّة استطاعت أن تنتزع لتونس، الصغيرة نسبيّاً، مكانةً متقدّمة في صفوف الدكتاتورية العربية العريقة! كانت تونس شيئًا مجهولاً جدّاً، مثل سجنٍ ذي سورٍ عالٍ، يرشحُ من أخباره قليلٌ بين فينة وأخرى، أخبارٌ تشبه الأساطير، وقصصٌ هي في حقيقتها تسريب!

كان هذا الحالُ الأعوجُ طارئاً على تونس، وإلا فإنّ هذا البلد طالما كانت له مركزيّةٌ مميّزةٌ في التراث العربيّ الإسلاميّ، ولعلّ المطالع للكتب التراثيّة، يعرفُ أن اسم "إفريقيّة" إذا أطلق لدى المؤلفين العرب غير المعاصرين، فإنّه يعني تونس حصراً! ولا يُنسى جامعُ الزّيتونة الذي يُعتبرُ وفق بعض الروايات أقدم جامعةٍ إسلاميّة على الإطلاق، ولا تتُجاوز القيروان حاضرةَ علميّة وتجاريّة على مرّ أزمنة التاريخ الإسلاميّ، حتى جاء النظامُ التغريبيّ القمعيّ فأمات هذا كلّه، وأغرق تاريخ تونس في بحرها، ودفنه في رمال شواطئها!

وفجأةً، حدثٌ على غير ميعاد، أعاد تونس إلى الواجهة من جديد، أصبحت مركز الحدث في الوطن العربي، وإنسانَ عين مارد الصحوة، وحلم المشرق النائم في النهضة الموعودة، والإجابة الدائمة عن كلّ الأسئلة!

لا شيء غير دماء الشهداء أعلى من شأن تونس، وأعادها من غياهب التاريخ إلى ذُرى الحاضر والمستقبل، ولولا دماءُ أبناء القصرين التي جرت في الثامن من (جانفي)، لاستطاع "بن علي" أن يدفن الثورة في مهدها، بزياراته المصطنعة إلى سيدي بوزيد، ووعوده الكاذبة للشباب التونسيّ بالتوظيف والإسكان، واعترافه البلاستيكيّ بأخطاء الماضي، عبر "أنا فهمتكم"، التي غدت مادّةً للتندّر في أرجاء الوطن العربيّ كله!

كان لدماء شهداء تونس في سيدي بوزيد والقصرين وغيرهما معانٍ عظيمة، قديمة نعم، غير أنّها لا تبلى، معنى الوقفة العزلاء في وجه آلة القتل، ومعنى كلمة الحقّ التي تُخيف الظالم حتى يخرج من ميدانه الذي صنعه؛ السجن ودوائر البوليس ومؤسسات الداخلية، إلى ميدان الناس؛ الشارع والساحة والمسجدُ والمدرسة، ومعنى الرغبة في الحياة الكريمة، وتفضيل الموت على عيش الذلّ والمهانة والسكوت.

اليوم ونحنُ نجلسُ على أطلال الربيع، لا نبكي أحلامنا فقط! بل نستذكرُ هذه المعاني الجميلة وذكرياتنا معها، لأجل أن لا ننساها في غمار جريان الناس نحو أكذوبة الاستقرار، وإيثارهم علانيةً وعن سبق إصرارٍ وتنكّر لكل حقّ، حياةَ الهدوء الكاذب الذي تصنعه وزارات الداخليّة على الحراك المقلق والمتعب في طريق السعي نحو الحرّية والكرامة.

لقد كان لهؤلاء الشهداء فضيلةٌ لم تكن لغيرهم، إذ خاضوا المعركة دون أن يخطر لهم خاطرُ النصر، أو احتمال سقوط النظام بأيديهم في أيامٍ معدودة، بخلاف الذين قاموا من بعدهم، وقد اتّضحت لهم هشاشةُ الأنظمة، وكان حاضراً أمامهم نموذج: "بن علي هرب"، يُعطيهم الأمل، ويُمنّيهم بنتيجةٍ مماثلة.

اليومَ نستذكرُ هؤلاء الشهداء؟ أسئلتنا حينذاك: ما الذي يجري؟ وإلى أين ستؤول الأمور؟ وكيف كشف لنا هؤلاء الأبطال عورة أنظمتنا التي أخافتنا طويلاً، وأسكتتنا كثيراً، وحكمت على أجيالٍ مديدةٍ أن تعيش حياتها، وتُربّي أبناءها على لزوم الجدران، وصون اللسان!

اليوم وقد خربنا بأيدينا ما بنى الشهداء، وأعادنا سفهاؤنا، بتخطيط أعدائنا إلى حالٍ أسوأ من الذي كنّا فيه، مازلنا نحفظُ لهؤلاء الشهداء دينهم في رقابنا، وما زال من معاني الدم الذي بذلوه معنىً لن يستطيع الظالم فعلاً أن يمحوه ويُنسيه لنا، هو كسر حاجز الخوف من زيّ الشرطيّ، من النسور في شعارات وزارات الداخليّة، ذوات المناقير المعقوفة، والعيون المحدّقة في بلادةٍ واستكبار، ومن النجوم "الفالصو" على أكتاف الضبّاط! وعصيّهم المكهربة، وكلابهم المدرّبة!

لقد أسقط الشهداءُ بدمائهم نجوم وزارات الداخليّة ونسورها، ولئن كان وزراء الداخليّة وقادة العسكر وجدوا طريقهم ليعودوا رؤساء إلى سُدّة الحكم، واستسلم العوامّ لذلك رغباً ورهباً، فإن الخوف لن يجد طريقه أبداً إلى قلوب الشباب الحرّ من جديد! هذا ما كتبتهُ الدماءُ ولن يمحوه أحد!

*فلسطين

المساهمون