عن شباب اليمن الذين اخترعوا صحافتهم

29 مايو 2018
فيسبوك متنفس للصحافة (فرج الإسلام)
+ الخط -
لم تعد، في اليمن، صحافة مستقلة... صحافةٌ تسير على رغبة أصحابها، من دون إجبار من أحد أو سلطة أو تمويل. لقد كان هذا في الزمن الفائت، حين كانت هناك صحافة من كل الجهات. لا يمكن إنكار وجود حالات تمويل المال السياسي في تلك الفترة، لكن صحفاً صغيرة استطاعت أن تجد لنفسها مكاناً وصارت حديث الناس. لكنها لم تقدر على إكمال الطريق. فالتكاليف باهظة ولا تمويل "نزيه". 
تبدو حالة جريدة "النداء" كمثالٍ هنا. اضطر مالكها ورئيس تحريرها، سامي غالب لإقفالها، بعد مكابدات جمّة. فوق أنه كان قد فتح ملّفات كثيرة غير مسبوقة في تاريخ الصحافة اليمنية، لعل أبرزها ملّف "المخفيون قسرياً".

والحال هذه انتقل صحافيون شباب إلى الضفة الأخرى. لهم أُسر ويجب أن يصرفوا عليها. وهناك أيضاً من صمد حريصًا على امتلاك صوته الشخصي الحُر رغم كل شيء.
قد يُمكن الحديث هنا بدايةً عن حالة الاستقطاب التي حصلت في عهد الرئيس اليمني المخلوع الراحل علي عبد الله صالح. لقد احتاج المخلوع وقتاً طويلاً كي يفهم طبيعة ودور الصحافة. كان يعتقد أن كل شيء يُمكن امتلاكه أو وضعه تحت دائرة الشراء. لكنّ السبحة فلتت من يده. لم تعد سلطته قادرة على لجم أقلام صحافية شقت طريقها الحر والذي عبره تقول كلمتها.
كانت المدونات الطريق الأول، قبل صفحات الموقع الأزرق، "فيسبوك".

لا يمكن الحديث هنا عن الإعلام اليمني البديل من دون الكلام عن الصحافي الاستقصائي محمد العبسي. فوق أنه كان شاعراً وأديباً، بدأ حياته عبر العمل الصحافي الأدبي في ملحق "الثقافة" التابع لجريدة "الثورة" الرسمية اليمنية، لكن ظهر له أن حياته وصوته أكبر وأكثر من النمط الرسمي. كما أنّه ترك الدراسة في وقت مُبكر. لم يجد نفسه على كراسي المدرسة. تعب على حياته وعمل كي يصرف على نفسه وعلى أسرته. مع ذلك، لم يترك الشغل الصحافي. كان يبعث تقاريره لأكثر من صحيفة. أشغال صحافية تقول بالفساد الذي كان حاصلاً - وما يزال - في اليمن. لكنه بلغ مرحلة التعب. حين كان يبعث تقريراً بالوثائق لجريدة ما يتم الرفض لأن الوثائق تعني الشخص، أو الحزب الممول لهذه الجريدة. وحصل الأمر ذاته مع جريدة أُخرى فاضطر إلى تأسيس مدونة "محمد العبسي" سماها على اسمه ووصل عدد من مر عليها إلى قرابة النصف مليون متابع... العبسي قُتل مسموماً نهاية العام 2016.

مرحلة فيسبوك
لم يكن الموقع الأزرق غائباً عن الساحة اليمنية خلال فترة "الربيع العربي". لقد استخدمه كثير من شباب الثورة، تناقل أخبار الساحات والصور من داخلها وتوثيق لحظات هجوم بلطجية الرئيس السابق عليها. لكنّ الصورة الواضحة الكبيرة لـ"فيسبوك" لم تظهر إلا بعد اجتياح جماعة الحوثي لكثير من المدن اليمنية وتراجعهم بعد ذلك مكتفين بالسيطرة على المناطق الشمالية. لقد تزامن هذا الأمر مع إقفالهم لكافة الجرائد المخالفة لرأيهم. في حين تكفلت قوى الأمر الواقع في الجنوب بمطاردة أصوات الناشطين المخالفين لعلاقة تلك الحكومة مع التحالف العربي بقيادة السعودية.
من هنا انطلق الناشطون من أرضية الموقع الأزرق. بعضهم تجاوز عدد متابعيه ربع مليون وصاروا مصدراً للأخبار وينتظر الناس ماذا سيكتبون كما لو كانوا ينتظرون صدور جريدتهم المفضلة.



تقول الكاتبة والإعلامية السابقة في الفضائية اليمنية ابتهال الضلعي: "لقد صار فيسبوك متنفساً أكثر مما هو مكان للصحافة المهنية ولا تظن إن الأمر متعلق بسبب غياب الصحافة المستقلة فقط ولكن بسبب متطلبات العصر". لكن مع ذلك لا تنفي الضلعي وجود مجموعة من الشباب استطاعوا تثبيت مصداقيتهم وهو ما أدى لاعتمادهم كمصادر موثوقة للأخبار، مؤكدةً في الوقت ذاته أن حالة الاستقطاب الحادة في الساحة اليمنية أدت لعدم استقلالية بعض تلك الأصوات.
بدورها، تقول الشاعرة والناشطة اليمنية سماح الشغدري إن مواقع التواصل صارت متنفساً كبيراً للناشطين والصحافيين "رغم استخدامه السطحي أحياناً في طرح القضايا لكنه مع ذلك "أصبح منبراً لتوصيل الرأي العام وكشف ما يحدث في الساحة وأيضاً جعل اسماء كثيرة نسوية خاصة وشبابية تبرز وتكتب عن قضايا مسكوت عنها وتحمل مقداراً غير مسبوق من الجرأة".
أمّا الشاعر مبارك سالمين، وهو رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فيقول إن نزوح الشباب إلى مواقع التواصل الاجتماعي في اليمن كان في البداية بسبب سقف الحرية المفتوح على تلك المواقع والمساحة التي وجدوها مفتوحة أمامهم بلا قص أو حذف أو رقابة مسبقة.

بعد كل هذا، قد تنبغي الإشارة إلى أنّ واحد من وزراء الثقافة السابقين في عهد المخلوع صالح. لقد بدأ عهد وزارته بإصدار قرار يتيح مراقبة محلات الإنترنت وجعلها مكشوفة حيث كان يعتبر مواقع التواصل الاجتماعي "لعب عيال". ودارت الدنيا، اليوم صارت صفحته الشخصية على الموقع الأزرق من أكثر الصفحات متابعة ويتكلم فيها عن الحرية وضرورة التعبير دون رقابة أو حذف.