يُعدّ المخرج المغربي كمال كمال (1961) اليوم في طليعة المخرجين العرب، الذين حقّقوا تمايزًا فنيًا وجماليًا ممتعًا في تجاربهم السينمائية، فاتحًا للسينما المغربية آفاقًا تخييلية جديدة عبر المواضيع وجماليات التصوير المشهدي، ونائيًا بنفسه عن الصناعة الترفيهية، التي تجعلها السينما العربية ـ في الأعوام الأخيرة ـ شعارًا لها، ما ساهم في بروز تجارب سينمائية رديئة، مقارنة بالمنتوج السينمائي المصنوع أخيرا في لبنان وسورية والعراق.
لكن ظهور موجة جديدة من المخرجين في المغرب، أمثال كمال كمال والشريف الطريبق ومحمد مفتكر وغيرهم، حرّر السينما المغربية من رتابتها، وألقى بها في عوالم وتخوم غير مسبوقة. هذا الأمر ملموس في سينما كمال كمال، إذْ يتحوّل النص معه إلى شعرية بصرية، وتصير الكاميرا إزميلاً ينحت به تضاريس المشهد الملتحم بالواقع، والمنفصل عنه في آن واحد.
"طيف نزار" (2002) و"السمفونية المغربية" (2006) و"الصوت الخفي" (2013): أفلام صنعت حضور كمال كمال، مانحة إياه مكانة متقدّمة في المشهد السينمائي العربي، بلغة شعرية مرهفة، تجعل الموسيقى أحد المكوّنات الدرامية للفيلم، فهي ليست عنصرًا مكمِّلاً للسيناريو، بل عنصر سردي يوازي نصّ السيناريو، وهذه ميزة فنية لا تتوافر عند باقي المخرجين، ومردها إلى النشأة والتكوين الأكاديميين الرصينين اللذين تلقاهما كمال في صغره، باعتباره موسيقيًا محبًّا للموسيقى الكلاسيكية، التي تُثير نوستالجيا خفية في ذاته كفنان، قبل أن يتخلى عن هذا الحلم نظرًا إلى عدم الاستحسان الذي تلقاه الموسيقى الكلاسيكية في المجتمعات العربية المعاصرة، منتقلاً إلى فضاء أرحب وأصعب، أي السينما، حيث تلتقي الفنون كلّها (بمفهومها الأرسطي) في قالب فنّي مركَّب يوحده هاجس الصورة والتخييل.
يمثل "السمفونية المغربية" حدثًا سينمائيًا مهمًّا في تاريخ السينما المغربية، بإعلانه ولادة سينما "حالمة" أكثر التحامًا بعنصر التخييل. سينما لا تجترّ الواقع المرير، بل تغوص في هامش المجتمع المغربي وقاعه، وفي ذاتية الإنسان المقهور، ساعية إلى إحياء القيم النبيلة التي تولد معه، والتي يعمل الواقع ـ يومًا بعد يوم، وبعنف ـ على تغييرها. في الفيلم، تسقط مقولة إميل سيوران "الواقع يصيبني بالربو"، بل تصير المقولة مجازًا مشتهى، لأن الواقع هنا يصبح مرآة للذات وهي ترى شروخها وأعطابها ومزالقها تجاه السلطة والفن والمجتمع وتقاليده، ويصير الواقع مختبرًا فنيًا وجماليًا لصناعة الأحلام، ويصبح مفهوم الألم طاقة للتخييل والحلم وانتشاء الممثل بفعل الإبداع. لكن الواقع المرير للمجتمع لا يخفت وهجه في الفيلم أحيانًا، بل يظلّ حاجزًا عند الممثل، ومنه تكثر الأسئلة: من شرّدنا؟ من أكل خبزنا؟ من سرق أحلامنا؟ أهي السلطة أم المجتمع؟
في الفيلم، يحرص كمال كمال على مزج مرارة العيش بالحلم، والرغبة بالألم، يصبح عنصر التخييل (السمفونية) عنصرًا ضروريًا لتجاوز هذه الازدواجية، التي يفرضها الواقع المغربي بآلامه وانكساراته كلّها.
تُسمَع الموسيقى ببطء وهي تجرح بكارة الفيلم. يصمت رفيق بوبكر (ضمير المجتمع المغربي)، ويصير عزيز الحطاب ـ رغم إعاقة فمه ـ نشيطًا وفرحًا وهو يعزف على آلته بمتعة وألم كبيرين. يصبح الفرد المغربي، الذي هدّه البرد والجوع والواقع البائس، أكثر تحررًا من ذاته المكلومة، يتأمّل العالم، ثم يرقص ويغنّي ويشرب وينتشي ويحلم بإنجاز سمفونية مغربية.
فيلم قوي يصوّر إيقاع حياتنا الرتيب في أوطاننا العربية، لكنه يظل يضمر رسائل سياسية قوية عبر الممثل يونس ميكري، الذي يؤدّي الدور الأساسي، والذي قاده القدر في ذلك الفضاء، حاملاً معه ماضيه الجريح من حرب لبنان (1982) التي يفقد فيها يده. يقول: "بين الموتى، كنتُ أبحث عن الأحياء. إنسان مات، لأنه لم يعد يفكر". يونس ميكري (كمال كمال) هو المحرك الرئيسي، والضوء الوحيد المتبقّي لهم. لذا، فهو في صراع دائم مع ضمير المجتمع المغربي رفيق بوبكر. وبين الفينة والأخرى، تخرج الممثلة ماجدولين الإدريسي، التي تؤدّي دور العاهرة مُقدِّمة نفسها امرأة مقهورة في المجتمع المغربي، وأنها "لا تصلح حتى أن يدوس عليها القطار"، لتذكر الجميع بوضعية المرأة وآلامها في مجتمع يرفضها. لذلك، تقرّر الانتحار، لكنها تفشل في ذلك. يستيقظ حلم محمد الشوبي في أن يصبح كاتبًا في جريدة، لكنه يظل مكتفيًا بالتمنّي.
كسر "السمفونية المغربية" تلك الرؤية التي تقول إن السينما المغربية عقيمة. فمشاهدة أفلامه تكشف كم أن كمال كمال ثائر على القوالب الكلاسيكية، التي دأبت عليها السينما المغربية منذ الاستقلال، ناقلاً إياها إلى مستوى أعمق من التخييل والتحليل والتساؤل والبوح الوجداني المرتبط بالإبداع. لذا، يُشكِّل كمال كمال أفقًا سينمائيًا مميّزًا لما تصبو إليه السينما المغربية أولاً، والعربية ثانيًا. ورغم ادّعائه دائمًا أنه مخرج غير محظوظ، مقارنة بمخرجين مغاربة آخرين، إلّا أن المشكلة متمثلة في أن سينماه "راقية جدًا" إلى درجة يجد فيها الإنسان المغربي البسيط، الذي هدّه الواقع، نوعًا من خيال مفرط.
إنها حقًا سينما ممتعة، فيها لذة الحكي وتجاعيد الماضي وبسمة المستقبل.
"طيف نزار" (2002) و"السمفونية المغربية" (2006) و"الصوت الخفي" (2013): أفلام صنعت حضور كمال كمال، مانحة إياه مكانة متقدّمة في المشهد السينمائي العربي، بلغة شعرية مرهفة، تجعل الموسيقى أحد المكوّنات الدرامية للفيلم، فهي ليست عنصرًا مكمِّلاً للسيناريو، بل عنصر سردي يوازي نصّ السيناريو، وهذه ميزة فنية لا تتوافر عند باقي المخرجين، ومردها إلى النشأة والتكوين الأكاديميين الرصينين اللذين تلقاهما كمال في صغره، باعتباره موسيقيًا محبًّا للموسيقى الكلاسيكية، التي تُثير نوستالجيا خفية في ذاته كفنان، قبل أن يتخلى عن هذا الحلم نظرًا إلى عدم الاستحسان الذي تلقاه الموسيقى الكلاسيكية في المجتمعات العربية المعاصرة، منتقلاً إلى فضاء أرحب وأصعب، أي السينما، حيث تلتقي الفنون كلّها (بمفهومها الأرسطي) في قالب فنّي مركَّب يوحده هاجس الصورة والتخييل.
يمثل "السمفونية المغربية" حدثًا سينمائيًا مهمًّا في تاريخ السينما المغربية، بإعلانه ولادة سينما "حالمة" أكثر التحامًا بعنصر التخييل. سينما لا تجترّ الواقع المرير، بل تغوص في هامش المجتمع المغربي وقاعه، وفي ذاتية الإنسان المقهور، ساعية إلى إحياء القيم النبيلة التي تولد معه، والتي يعمل الواقع ـ يومًا بعد يوم، وبعنف ـ على تغييرها. في الفيلم، تسقط مقولة إميل سيوران "الواقع يصيبني بالربو"، بل تصير المقولة مجازًا مشتهى، لأن الواقع هنا يصبح مرآة للذات وهي ترى شروخها وأعطابها ومزالقها تجاه السلطة والفن والمجتمع وتقاليده، ويصير الواقع مختبرًا فنيًا وجماليًا لصناعة الأحلام، ويصبح مفهوم الألم طاقة للتخييل والحلم وانتشاء الممثل بفعل الإبداع. لكن الواقع المرير للمجتمع لا يخفت وهجه في الفيلم أحيانًا، بل يظلّ حاجزًا عند الممثل، ومنه تكثر الأسئلة: من شرّدنا؟ من أكل خبزنا؟ من سرق أحلامنا؟ أهي السلطة أم المجتمع؟
في الفيلم، يحرص كمال كمال على مزج مرارة العيش بالحلم، والرغبة بالألم، يصبح عنصر التخييل (السمفونية) عنصرًا ضروريًا لتجاوز هذه الازدواجية، التي يفرضها الواقع المغربي بآلامه وانكساراته كلّها.
تُسمَع الموسيقى ببطء وهي تجرح بكارة الفيلم. يصمت رفيق بوبكر (ضمير المجتمع المغربي)، ويصير عزيز الحطاب ـ رغم إعاقة فمه ـ نشيطًا وفرحًا وهو يعزف على آلته بمتعة وألم كبيرين. يصبح الفرد المغربي، الذي هدّه البرد والجوع والواقع البائس، أكثر تحررًا من ذاته المكلومة، يتأمّل العالم، ثم يرقص ويغنّي ويشرب وينتشي ويحلم بإنجاز سمفونية مغربية.
فيلم قوي يصوّر إيقاع حياتنا الرتيب في أوطاننا العربية، لكنه يظل يضمر رسائل سياسية قوية عبر الممثل يونس ميكري، الذي يؤدّي الدور الأساسي، والذي قاده القدر في ذلك الفضاء، حاملاً معه ماضيه الجريح من حرب لبنان (1982) التي يفقد فيها يده. يقول: "بين الموتى، كنتُ أبحث عن الأحياء. إنسان مات، لأنه لم يعد يفكر". يونس ميكري (كمال كمال) هو المحرك الرئيسي، والضوء الوحيد المتبقّي لهم. لذا، فهو في صراع دائم مع ضمير المجتمع المغربي رفيق بوبكر. وبين الفينة والأخرى، تخرج الممثلة ماجدولين الإدريسي، التي تؤدّي دور العاهرة مُقدِّمة نفسها امرأة مقهورة في المجتمع المغربي، وأنها "لا تصلح حتى أن يدوس عليها القطار"، لتذكر الجميع بوضعية المرأة وآلامها في مجتمع يرفضها. لذلك، تقرّر الانتحار، لكنها تفشل في ذلك. يستيقظ حلم محمد الشوبي في أن يصبح كاتبًا في جريدة، لكنه يظل مكتفيًا بالتمنّي.
كسر "السمفونية المغربية" تلك الرؤية التي تقول إن السينما المغربية عقيمة. فمشاهدة أفلامه تكشف كم أن كمال كمال ثائر على القوالب الكلاسيكية، التي دأبت عليها السينما المغربية منذ الاستقلال، ناقلاً إياها إلى مستوى أعمق من التخييل والتحليل والتساؤل والبوح الوجداني المرتبط بالإبداع. لذا، يُشكِّل كمال كمال أفقًا سينمائيًا مميّزًا لما تصبو إليه السينما المغربية أولاً، والعربية ثانيًا. ورغم ادّعائه دائمًا أنه مخرج غير محظوظ، مقارنة بمخرجين مغاربة آخرين، إلّا أن المشكلة متمثلة في أن سينماه "راقية جدًا" إلى درجة يجد فيها الإنسان المغربي البسيط، الذي هدّه الواقع، نوعًا من خيال مفرط.
إنها حقًا سينما ممتعة، فيها لذة الحكي وتجاعيد الماضي وبسمة المستقبل.