عن زمن القراءة الضائع

03 فبراير 2015
مكتبة عامة في ألمانيا (Getty)
+ الخط -
هذا الصباح قرأت خبراً مذهلاً، وهو أنّ أكثر من 100 مليون عربي أمّي، لا يعرفون القراءة والكتابة. لكن بعد الذهول، وامتصاص الصدمة، وجدت أنّ الرقم الحقيقي قد يكون أكبر من المعلن، لأنّ أغلبنا يتعلّم القراءة، لكنّ أغلبنا نادراً ما يمارسها، إلا في قراءة "البوستات الفيسبوكية"، عن المصائب المتكرّرة من حروب وثورات وعواصف ثلجية.

كثيراً ما أكتب أو أقرأ لغيري وصفاً رومانسياً لأيّام زمان، خاصة عندما يكون الكلام عن المحبة التي كانت سائدة بين الناس، وعن عادات القراءة أيام كنا صغاراً، وكيف كان الجميع يقرأ لأنّ التلفزيون لم يكن موجوداً ولا الإنترنت ولا تلفونات ذكية يلامسها الرضع مرافقة لثدي أمّهم أو لقنينة الرضاعة.

بعيداً من رومانسية الزمن الجميل وتوابعه، عدت بذاكرتي لأيام طفولتي. نحن عائلة مكونة من ولدين وبنتين وبالطبع الوالدين. كنت محظوظة لأنّ والديّ كانا من محبّي القراءة وشاركتهم أنا وأخي الأصغر حبّ القراءة، بينما لم تشاركنا أختي الصغرى وأخي الكبير هذا الولع بالقراءة، ناهيك عن أنّ أغلب أقاربنا من بالغين وصغار لم يطالعوا على الأرجح كتاباً واحداً طوال حياتهم، لظروف عديدة ربما خارجة عن إرادتهم.

يومها، كهذه الأيام، كان نادراً جدّاً وجود مكتبات بيتية في منازل الناس في بلادنا. قلائلَ وغريبين جداً كانوا الأطفال أو النساء المدمنين على عادة القراءة، فهي كانت قسراً على المثقّفين من الرجال، وكانوا وما زالوا ندرة. بعد النكبة، كان الأمر مفهوماً، خاصة بعد أن تشرّد أغلب الناس واضطروا لترك بيوتهم بما فيها، وانقطع التواصل مع باقي فلسطين وأنحاء العالم العربي عملياً وثقافياً.

لكنّ الأمر بدأ يتغيّر منذ بداية الستينيات، حيث كانت تصلنا مجّاناً عبر الحزب الشيوعي الإسرائيلي كتب روسية رائعة للأطفال، مترجمة بلغة سلسلة صحيحة ممتعة، وفي عام 1967 ومع إتمام احتلال بلادنا، صارت إمكانية الحصول على الكتب العربية أسهل بكثير مع وجود مكتبات عريقة لبيع الكتب في القدس ورام الله ونابلس والخليل.

لاحقاً أتتنا الكتب العراقية مجاناً من وزارة الثقافة العراقية، ومعها كتب دار الفتى العربي الفلسطينية، التي كانت تباع بمبلغ رمزي جداً، هذا بالإضافة لقيام بعض المبادرات المحلية لتسويق كتب تمّ تهريبها لتطبع بشكل غير رسمي، ويتمّ شراء اشتراك سنوي للحصول عليها عبر البريد.

كانت هناك إمكانيات للحصول على الكتب بطريقة أو بأخرى، لكن وضع الكتاب والمكتبات البيتية بقي مثلما هو لا يتغيّر. فكثيراً ما وزّعت كتب دار الفتى العربي على الأطفال في مناسبات شخصيّة عديدة مثل أوّل عيد ميلاد لابني البكر، أمير، لأراها في اليوم الثاني ممزّقة ومرمية في الشارع مع عيدان الملوخية، تنتظر سيارة جمع القمامة، لتأتي وتأخذها بعيداً عن أعين الاطفال والكبار، وكنت أزعل وأعد نفسي بعدم تكرار التجربة، لكن لم أتوقّف إلا بعد أن توقّفت إصدارات دار الفتى العربي عن الوصول للبلاد.

ومع دخول التلفزيون، ولاحقاً النتّ، صار للناس سبب مقنع لعدم تعاملهم مع الكتب، حيث يتّهمون وسائل التواصل الحديثة بعدم إقبالهم وإقبال أطفالهم على القراءة من قريب أو بعيد. كوني أتعامل مع الأطفال والأهل تقريباً يومياً، سواء في المدارس أو المكتبات العامة في البلاد والخارج، كنت أرى الابتعاد المتزايد للأطفال عن عالم القراءة، رغم كل مشاريع تشجيع القراءة المنهجية واللامنهجية الجدية والأقلّ جدية، وما زال أغلب أفراد مجتمعنا أناساً لا يقرأون أكثر من 7 صفحات في العام (حسب آخر تقرير عن العالم العربي وعادات القراءة).

ما أكّد معلوماتي هي عودتي لتدريس مادة أدب الأطفال، في جامعة عربية في الضفّة، لطالبات سنة رابعة تربية، ومنهنّ من بدأن يمارسن عملهن كمربيات، وصعقت من جهلهن وهنّ من جيل أوسلو (مما يعني تربوا على المنهاج الفلسطيني) بكل ما له علاقة بالقراءة والكتّاب المحليين العرب والأجانب.

وحاولت بكلّ ما أملك من مواهب في فنّ الحكي والقراءة بصوت عالٍ ومهاراتي الأكاديمية إقناعهن بالمتعة الكامنة في القراءة، لكن هيهات!! فقد قالت لي إحداهن بكلّ صراحة: "إذا أنا ما عندي شغف بالقراءة فكيف سأقرأ للأطفال مستقبلاً؟".

اللي كان هو ما سيكون، ويمكن يصير أسوأ بكلّ شيء وخاصة في ما يتعلّق بالقراءة.
المساهمون