"لن تموتوا بدون الجبنة الفرنسية والزبدة الدنماركية". بهذه الكلمات سخر الممثل دريد لحام من معاناة السوريين بالداخل في مقابلة تلفزيونية بثتها قناة "الميادين"، بعدما ارتفعت أصواتهم في الفترة الأخيرة للاحتجاج على النظام الذي لم يعد قادراً على تأمين احتياجاتهم الرئيسية من غذاء ودواء؛ ليبدو أن لحام يحاول أن يميع الكارثة الإنسانية التي يعيشها المواطنون السوريون، ويلقي اتهام الـ"لاوطنية" على كل من يخرج لانتقاد السياسات التي يتبعها النظام بإدارة البلاد، والتي أدت لتجويع المواطنين السوريين. قد لا يبدو غريباً سماع تصريحات كهذه من دريد لحام بالذات، الرجل الذي جند نفسه لتلميع صورة النظام ومناصرته منذ أن اندلعت الثورة السورية عام 2011. لكن هذا التصريح بالذات يبدو تجسيداً لحالة الفصام التي يعيشها لحام، ما بين الأعمال الفنية التي قدمها خلال مسيرته الفنية الحافلة، وما بين مواقفه السياسية وآرائه الشخصية؛ إذ إن هذا التصريح يتعارض بشكل مباشر مع ما قدمه لحام في التسعينيات في عمله "أبو الهنا" على وجه الخصوص، وهو المسلسل الذي ألفه حكم البابا وأخرجه هشام شربتجي، والذي انتقد سياسات الانغلاق وانعدام قيمة حياة المواطن في ظل الشعارات الوطنية الجوفاء والرنانة التي يتم ترديدها لتشريع الذل الذي يعيشه السوريون.
"أبو الهنا"، الموظف البسيط الذي يعيش على الفتات، كانت تربطه علاقة خاصة بإعلام النظام السوري حينها؛ إذ كان مرغماً على متابعته بسبب سياسات الانغلاق التي تجعل من اقتناء لاقط ديجيتال جريمة يعاقب عليها القانون، كما يوضح المسلسل. ومن خلال شاشة التلفزيون الصغيرة في غرفة معيشة "أبو الهنا"، تم استعراض الخطاب الإعلامي الرسمي في تلك الحقبة، التي كانت فيها سورية تعاني من حصار اقتصادي.
ربما لا يبدو غريباً أن الخطاب الإعلامي السوري الرسمي اليوم يتطابق إلى حد بعيد مع الخطاب الإعلامي على شاشة "أبو الهنا"؛ فالنظام السوري لم يغير من فلسفته وتوجهاته، ولا يزال يجتر المبررات ذاتها التي تفرض وجوده رغم فشله، ولا يزال يلقي اللوم والاتهامات على المواطنين ليحملهم مسؤولية عجزه عن إدارة البلاد. بل إن بعض التصريحات الكاريكاتورية الغريبة التي تم استعراضها على شاشة تلفزيون "أبو الهنا" بأسلوب هزلي، يتم ترديدها على شاشات النظام اليوم بجدية؛ مثل التصريحات المرتبطة بالموز، إذ يتم اليوم انتقاد الموز باعتباره فاكهة مستوردة، ويطل إعلاميون وخبراء على شاشات النظام لينتقدوا السوريين الذين يتناولون الموز، معتبرين هذا الفعل يتنافى مع عادات وقيم المجتمع السوري! وهذه التصريحات التي تم تداولها أخيراً بجدية، هي ليست سوى اجترار لما كان يعرض على تلفزيون "أبو الهنا" بهزلية.
ولا يخرج تصريح دريد لحام الأخير عن هذا النطاق، فهو ليس سوى استكمال للخطاب الإعلامي السوري اليوم الذي يتعاطى مع غالبية المطالب المعيشية، التي أسفرت عن مظاهرات تطالب بإسقاط النظام في مدينة السويداء، باعتبارها فذلكة من المواطنين الذين اعتادوا على رغد العيش، ويطرحون حلولاً للاستعاضة عن الأغذية والأدوية المفقودة ببدائل وطنية متوفرة؛ حتى وإن كانت هذه البدائل معدومة الجودة وغالية الثمن، فالغاية من استخدامها تتمثل بـ"دعم الاقتصاد الوطني". نشير إلى أن دريد لحام سبق له أن انتقد هذا النهج أيضاً في مسلسل "أبو الهنا"، حين يتم إرغامه على الاستغناء عن بطارية قلبية أجنبية صغيرة زرعها بجسد أمه في بريطانيا، والاستعاضة عنها بجهاز طبي وطني، بحجم جهاز الميكروويف، يتم توصيله بوصلات خارجية؛ لتشير تلك الحلقة إلى أن الدولة السورية تضع دعم الاقتصاد الوطني وتجارة المنتجات الوطنية الرديئة أولويةً على حساب حياة المواطنين.
تصريح لحام الجديد وتعارضه مع تاريخه الفني العريق، يمثل صدمة جديدة رغم اعتيادنا على الأمر؛ فدريد لحام هو رجل التناقضات القصوى. لعلّه من أفضل الممثل السوريين الذين نقلوا معاناة الناس إلى الشاشة، لكنه لم يتبنّ قضايا الشعب يوماً.