يبدو أنّ حالة أسعار العملات الأجنبية في الجزائر تشبه إلى حدٍّ ما ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة، فبعد استقرار طويل تهاوت تلك الأسعار وخاصة سعر اليورو مقابل الدينار الجزائري ابتداءً من شهر يوليو/ تموز 2019 في سابقة من نوعها منذ أزيد من سنتين.
فقد تحطَّم سعر الصرف القياسي والرهيب لليورو مقابل الدينار في الأسواق الموازية، وتهاوى بوتيرة سريعة من 210 دنانير لكل يورو إلى 180 ديناراً لليورو، ومن المُتوقَّع أن يواصل انهياره ليبلغ 150 ديناراً لليورو، ولا سيَّما في ظل الشائعات التي يروِّج لها أولئك الذين يحترفون المتاجرة في الأزمات.
أمّا بالنسبة للسعر الرسمي لليورو فقد شهد انخفاضاً طفيفاً من 135.13 ديناراً لليورو في 29 يونيو/ حزيران 2019 إلى 133.64 ديناراً لليورو في يوليو/ تموز 2019، لكن ما هي الأسباب الكامنة وراء هذا الانخفاض، وبالضبط خلال هذه الفترة الحرجة التي تمرّ بها الجزائر؟
الحراك ومكافحة الفساد
أدَّت حملة الاعتقالات الواسعة لرجال الأعمال والسياسيين بتهم الفساد ومنع آخرين من السفر، إلى تراجع الطلب على العملات الصعبة في الأسواق الموازية، وخاصّة أنّ تلك الفئة هي التي كانت تستهلك ما يعرضه بارونات السوق السوداء من العملات الأجنبية.
كما ساهم الحراك الشعبي الذي بدأ بتاريخ 22 فبراير/ شباط الماضي، في تشديد الرقابة وتجميد مشاريع الاستثمار، وكذا القروض البنكية الموجهة للاستيراد، التي تعدّ أحد أهم الموارد المغذية للعرض في السوق السوداء للعملات الصعبة، وهذه الخطوة جاءت بهدف الحدّ من جرائم تضخيم الفواتير وتهريب العملة للخارج، المرتكبة من قبل العصابات المُلتفَّة حول النظام السياسي.
اقــرأ أيضاً
وساهمت رياح الحراك الشعبي في كبح الطلب على العملات الصعبة في السوق السوداء، من خلال إطلاق موجة من التحقيقات والمتابعة القضائية ضدّ أباطرة الفساد، التي أدَّت بدورها إلى شلّ كل محاولات كبار التجّار والمستوردين لشراء العملات الصعبة وتهريبها إلى الخارج، كما لعب الحراك الشعبي أيضاً على أوتار عرض العملات الصعبة في السوق الموازية، وأدَّى إلى رفعه من خلال تكثيف جهود محاربة تهريب العملة عبر كافة المطارات والموانئ والمعابر الحدودية.
وكان للقرار الحكومي القاضي بوقف التمويل غير التقليدي تأثير أيضاً، لأنّه يعكس قلة السيولة المالية من الدينار وهذا ما أدَّى بدوره إلى كبح الطلب على العملات الصعبة في السوق السوداء.
وكان لتداعيات الحراك التي قلقلت الاستقرار، مساهمة معتبرة في عزوف المواطنين عن السفر وصرف الأموال خارج الجزائر، تحسُّباً لاحتمال تراجع المستوى المعيشي وتخوُّفاً من بوادر أزمة اقتصادية خانقة مفاجئة، قد تنتج عن الأوضاع السياسية الراهنة وتهزّ البلاد في أيّ لحظة، وهذا ما أدَّى إلى تراجع الطلب على العملة الصعبة وتراكم العرض.
ولا ننسَ أيضاً العامل النفسي الذي يلعب على الوتر الحسّاس لبارونات السوق السوداء، الذين يتأثَّرون كثيراً بالتكهنات حول انهيار أسعار العملات الصعبة وعلى رأسها اليورو، وهذا ما يدفعهم لإخراج كميات مهمة من تلك العملات بهدف بيعها خوفاً من تحمُّل خسائر فادحة في الفترات المقبلة، أي يحرصون على بيع تلك العملات بـ 180 ديناراً اليوم أحسن من 170 ديناراً غداً، أو بـ 170 ديناراً غداً أحسن من 150 ديناراً بعد عشرة أيام وهكذا، وتجنُّب قادة السوق السوداء لانهيار أكبر في الأيام القادمة لتكون خسارتهم أقل هو ما يثقل كفة عرض العملات الصعبة، ومن ثم يساهم في تدنِّي أسعارها مقابل الدينار.
ومن المخزي جدّاً أن لا نجد المؤشرات الإيجابية كتحسُّن الاقتصاد الجزائري مبرِّراً لتهاوي أسعار صرف العملات الصعبة، ونجد بدلاً من ذلك اليد الخفية لبارونات السوق السوداء التي تتحرَّك بحرية تامّة في ظلّ غياب رقيب أو حسيب.
صعوبة الحصول على نقد أجنبي
يرجع الوضع الكارثي الذي آلت إليه أسعار العملات الصعبة في الجزائر، إلى تهاون الحكومة في إنشاء مكاتب صرف قانونية ومعتمدة كما هو معمول به في باقي الدول العربية.
إضافة للمنحة السياحية الهزيلة المقدرة بـ 105 يورو والممنوحة للمواطن مرّة واحدة سنوياً، وللحصول على هذا المبلغ الزهيد الذي لا يكفي حتى لقضاء ليلة واحدة خارج الجزائر.
يمرّ المواطن بعدة مطبات ويواجه عراقيل خرافية في البنوك، ويصطدم بإجابات متفاوتة الاستهزاء مثلاً "العملات الصعبة غير متوفِّرة اليوم ..عُد بعد يومين"، أو "قمنا بطلب كمية من العملات الصعبة من بنك الجزائر ولم نتسلمها إلى حدّ الساعة.. يمكنك العودة الأسبوع القادم لتفقُّد الأمر"، أو "العملة الصعبة متوفرة لدينا، ولكن للأسف ليس لدينا المطبوعات البنكية الخاصة باستخراجها".
اقــرأ أيضاً
وسيستمع المواطن المحظوظ الذي لم يتعثَّر بالأجوبة السابقة الذكر إلى الجواب المتشبِّع بالفكر الإبداعي التالي "لدينا كمية من العملة الصعبة لكن للأسف ليس لدينا فكة.. اذهب لإحضار ورقة نقدية من فئة 5 يورو ليتم تسليمك مبلغاً قدره 110 يورو لأنّ المنحة تقدَّر بـ 105 يورو لا أكثر ولا أقل".
وسيجوب هذا المواطن كافة أرجاء مدينته ليحصل على تلك الفكة من السوق السوداء، وإن حصل عليها فعليه أن يحرص كذلك أن تكون نظيفة جدّاً لأنّها ستُقابل بالرفض إن كانت متسخة ورثّة، وهذا طبيعي لأنّها ستأتي من المحالّ الشعبية في السوق السوداء.
خلاصة القول، أنّ هذا الوضع المزري والمخجل يتنافى تماماً مع الثروات الهائلة التي تزخر بها الجزائر، وإن دلَّ هذا الوضع على شيء فانه يدلّ على وجود فساد كبير وعصابة كبيرة تقتات من السوق السوداء، وتصوِّرها على أنها البورصة الرسمية للمواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة.
ويعتبر تغيير الأمور للأحسن ضرباً من المحال إن استمرّ رموز النظام السابق في نحت النظام الجديد، وخاصّة أنّ هذا الوضع الجهنمي لم يصل إلى ما هو عليه الآن، بسبب غياب الحلول على مائدة نقاش صانعي القرار بل بسبب العقليات والذهنيات التي تنتج الحلول، والذي كان جزءاً من المشكلة لا يمكن أن يكون طرفاً في الحل.
فقد تحطَّم سعر الصرف القياسي والرهيب لليورو مقابل الدينار في الأسواق الموازية، وتهاوى بوتيرة سريعة من 210 دنانير لكل يورو إلى 180 ديناراً لليورو، ومن المُتوقَّع أن يواصل انهياره ليبلغ 150 ديناراً لليورو، ولا سيَّما في ظل الشائعات التي يروِّج لها أولئك الذين يحترفون المتاجرة في الأزمات.
أمّا بالنسبة للسعر الرسمي لليورو فقد شهد انخفاضاً طفيفاً من 135.13 ديناراً لليورو في 29 يونيو/ حزيران 2019 إلى 133.64 ديناراً لليورو في يوليو/ تموز 2019، لكن ما هي الأسباب الكامنة وراء هذا الانخفاض، وبالضبط خلال هذه الفترة الحرجة التي تمرّ بها الجزائر؟
الحراك ومكافحة الفساد
أدَّت حملة الاعتقالات الواسعة لرجال الأعمال والسياسيين بتهم الفساد ومنع آخرين من السفر، إلى تراجع الطلب على العملات الصعبة في الأسواق الموازية، وخاصّة أنّ تلك الفئة هي التي كانت تستهلك ما يعرضه بارونات السوق السوداء من العملات الأجنبية.
كما ساهم الحراك الشعبي الذي بدأ بتاريخ 22 فبراير/ شباط الماضي، في تشديد الرقابة وتجميد مشاريع الاستثمار، وكذا القروض البنكية الموجهة للاستيراد، التي تعدّ أحد أهم الموارد المغذية للعرض في السوق السوداء للعملات الصعبة، وهذه الخطوة جاءت بهدف الحدّ من جرائم تضخيم الفواتير وتهريب العملة للخارج، المرتكبة من قبل العصابات المُلتفَّة حول النظام السياسي.
وساهمت رياح الحراك الشعبي في كبح الطلب على العملات الصعبة في السوق السوداء، من خلال إطلاق موجة من التحقيقات والمتابعة القضائية ضدّ أباطرة الفساد، التي أدَّت بدورها إلى شلّ كل محاولات كبار التجّار والمستوردين لشراء العملات الصعبة وتهريبها إلى الخارج، كما لعب الحراك الشعبي أيضاً على أوتار عرض العملات الصعبة في السوق الموازية، وأدَّى إلى رفعه من خلال تكثيف جهود محاربة تهريب العملة عبر كافة المطارات والموانئ والمعابر الحدودية.
وكان للقرار الحكومي القاضي بوقف التمويل غير التقليدي تأثير أيضاً، لأنّه يعكس قلة السيولة المالية من الدينار وهذا ما أدَّى بدوره إلى كبح الطلب على العملات الصعبة في السوق السوداء.
وكان لتداعيات الحراك التي قلقلت الاستقرار، مساهمة معتبرة في عزوف المواطنين عن السفر وصرف الأموال خارج الجزائر، تحسُّباً لاحتمال تراجع المستوى المعيشي وتخوُّفاً من بوادر أزمة اقتصادية خانقة مفاجئة، قد تنتج عن الأوضاع السياسية الراهنة وتهزّ البلاد في أيّ لحظة، وهذا ما أدَّى إلى تراجع الطلب على العملة الصعبة وتراكم العرض.
ولا ننسَ أيضاً العامل النفسي الذي يلعب على الوتر الحسّاس لبارونات السوق السوداء، الذين يتأثَّرون كثيراً بالتكهنات حول انهيار أسعار العملات الصعبة وعلى رأسها اليورو، وهذا ما يدفعهم لإخراج كميات مهمة من تلك العملات بهدف بيعها خوفاً من تحمُّل خسائر فادحة في الفترات المقبلة، أي يحرصون على بيع تلك العملات بـ 180 ديناراً اليوم أحسن من 170 ديناراً غداً، أو بـ 170 ديناراً غداً أحسن من 150 ديناراً بعد عشرة أيام وهكذا، وتجنُّب قادة السوق السوداء لانهيار أكبر في الأيام القادمة لتكون خسارتهم أقل هو ما يثقل كفة عرض العملات الصعبة، ومن ثم يساهم في تدنِّي أسعارها مقابل الدينار.
ومن المخزي جدّاً أن لا نجد المؤشرات الإيجابية كتحسُّن الاقتصاد الجزائري مبرِّراً لتهاوي أسعار صرف العملات الصعبة، ونجد بدلاً من ذلك اليد الخفية لبارونات السوق السوداء التي تتحرَّك بحرية تامّة في ظلّ غياب رقيب أو حسيب.
صعوبة الحصول على نقد أجنبي
يرجع الوضع الكارثي الذي آلت إليه أسعار العملات الصعبة في الجزائر، إلى تهاون الحكومة في إنشاء مكاتب صرف قانونية ومعتمدة كما هو معمول به في باقي الدول العربية.
إضافة للمنحة السياحية الهزيلة المقدرة بـ 105 يورو والممنوحة للمواطن مرّة واحدة سنوياً، وللحصول على هذا المبلغ الزهيد الذي لا يكفي حتى لقضاء ليلة واحدة خارج الجزائر.
يمرّ المواطن بعدة مطبات ويواجه عراقيل خرافية في البنوك، ويصطدم بإجابات متفاوتة الاستهزاء مثلاً "العملات الصعبة غير متوفِّرة اليوم ..عُد بعد يومين"، أو "قمنا بطلب كمية من العملات الصعبة من بنك الجزائر ولم نتسلمها إلى حدّ الساعة.. يمكنك العودة الأسبوع القادم لتفقُّد الأمر"، أو "العملة الصعبة متوفرة لدينا، ولكن للأسف ليس لدينا المطبوعات البنكية الخاصة باستخراجها".
وسيستمع المواطن المحظوظ الذي لم يتعثَّر بالأجوبة السابقة الذكر إلى الجواب المتشبِّع بالفكر الإبداعي التالي "لدينا كمية من العملة الصعبة لكن للأسف ليس لدينا فكة.. اذهب لإحضار ورقة نقدية من فئة 5 يورو ليتم تسليمك مبلغاً قدره 110 يورو لأنّ المنحة تقدَّر بـ 105 يورو لا أكثر ولا أقل".
خلاصة القول، أنّ هذا الوضع المزري والمخجل يتنافى تماماً مع الثروات الهائلة التي تزخر بها الجزائر، وإن دلَّ هذا الوضع على شيء فانه يدلّ على وجود فساد كبير وعصابة كبيرة تقتات من السوق السوداء، وتصوِّرها على أنها البورصة الرسمية للمواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة.
ويعتبر تغيير الأمور للأحسن ضرباً من المحال إن استمرّ رموز النظام السابق في نحت النظام الجديد، وخاصّة أنّ هذا الوضع الجهنمي لم يصل إلى ما هو عليه الآن، بسبب غياب الحلول على مائدة نقاش صانعي القرار بل بسبب العقليات والذهنيات التي تنتج الحلول، والذي كان جزءاً من المشكلة لا يمكن أن يكون طرفاً في الحل.