عن النسخة التركية من جبران باسيل (2/ 2)

14 سبتمبر 2019
+ الخط -
في الفترة التي تسبق كل انتخابات في تركيا، تُشحن أجواء وسائل التواصل الاجتماعي بأعلى درجات التوتر بين أنصار الموالاة والمعارضة، وكتقليد ترسخ خلال السنوات الثماني الأخيرة، أصبح الهجوم على السوريين ووجودهم في البلاد أمراً ثابتاً في البرنامج الدعائي للمعارضة التركية، سواء على لسان قادتها بشكل مباشر أو عن طريق "الذباب الإلكتروني" التابع لها.

في فترة الدعاية التي سبقت الانتخابات الرئاسية العام الماضي، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي سخطاً شديداً من قبل المواطنين الأتراك، بعد أن انتشر مقطع فيديو يظهر "كلباً" صغيراً وقد تم بتر طرفيه الأماميين، إذ طالبوا الحكومة بالبحث عن الجاني وإنزال أقسى العقوبات به. والحقيقة أن الشعب التركي يحب بشدة الحيوانات، لدرجة أنه يمكن استفزاز الشارع بحوادث من هذا القبيل.

قد يتساءل القارئ عن حق: وما دخل السوريين بالاعتداء على هذا الحيوان الضعيف؟  والجواب: نعم، ففي كل حدث سيئ أو مصيبة تحدث في تركيا يمكن بنسبة كبيرة أن تُحَمّل هذه المصيبة للسوريين بشكل أو بآخر، وهذا ما وقع فعلاً في حادثة "الكلب مبتور القدمين" عندما نشر سنان أوغان على حسابه في "تويتر" بتاريخ 16 يونيو/ حزيران 2018 ذلك المقطع الذي يظهر طفلين صغيرين يتكلمان العربية - بلهجة غير سورية - وهما يقومان بمحاولة بتر طرفي كلب صغير يشبه ذلك الكلب التركي.

كتب سنان أوغان معلقاً على المقطع ومخاطباً الأطفال: "في أي عائلة نشأتم؟ من أنتم وما دينكم؟ ألم تعلمكم عائلتكم أي رحمة أو إنسانية أو إحساس بالشفقة؟ يجب على الحكومة فوراً اتخاذ التدابير اللازمة في هذه المسائل".

بعد نشر أوغان ذلك المقطع، قامت قيامة "تويتر" التركي، ومن غير أي دليل تم اتهام السوريين بالجريمة الفظيعة وبدأت التعليقات تتهافت بأن السوريين، كباراً وصغاراً، لا يستحقون الحياة، شعب مجرم بالتكوين يستحق الموت، وحلال على بشار الأسد ما يفعله بهذا الشعب، وظهرت على نفس المنشور دعوات لطرد السوريين كباراً وصغاراً لأنهم يشكلون خطراً على المجتمع التركي.

خلال ساعتين من نشر المقطع والذي كاد يتحول إلى قضية رأي عام في تركيا، رد بعض المغردين على أوغان بأن هذا المقطع كان قد التقط في مصر منذ أكثر من عامين ولا علاقة للسوريين به، متهمين إياه بالعمل ضمن شبكة موجهة، إذ إن البحث عن مقطع مغمور كهذا المقطع من قبل شخص لا يعرف اللغة العربية فضلاً عن لهجاتها أمر مستحيل، ولذلك اتهمه بعض النشطاء بالعمل مباشرة مع اللجان الإلكترونية التابعة لنظام الأسد.

لم يعلق سنان أوغان على مصدر المقطع، ولم يصحح لمتابعيه أو يبين لهم عدم قصده السوريين بعد سيل الدعوات الذي صدر إثر منشوره لطردهم من تركيا وحتى قتلهم.

إدلب مرة أخرى

مع استمرار التصعيد الروسي وتوارد صور المجازر البشعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي رغم تجاهل الإعلام التركي لها، استطاعت تلك المآسي الفظيعة أن تعيد بعض التعاطف للرأي العام التركي الذي كان قد تحجر تجاه السوريين. هذا التعاطف بطبيعة الحال، لن يعجب المنظومة التي يمثلها سنان أوغان، والتي لطالما كان هدفها تعميد السوريين المعارضين للأسد عدواً للشعب التركي.

أوغان الذي التزم هدوءاً "نسبياً" لفترة تجاه السوريين على وقع صور المجازر اليومية، وجد بغيته في الأحداث الأخيرة التي رافقت مظاهرات الجمعة 30 أغسطس/ آب الفائت، والتي نظمها بعض السوريين على المعابر التركية المغلقة في وجوههم، ليشن هو وفريقه القومجي حملة عبر "تويتر" حصدت تغريداتها عشرات الآلاف من الإعجابات وإعادة التغريد ثم تحولت إلى "هاشتاغ" يدعو من جديد إلى طرد السوريين من البلاد.

أوغان توج تغريداته الحاقدة على السوريين مخاطباً الشعب التركي "إن كل ما ترسلونه من مساعدات وأموال زكاة وفطرة يصل إلى هؤلاء السلفيين الجهاديين الذين يضربون الجيش التركي اليوم بالحجارة ويتهمونه بالخيانة، الغالبية العظمى من الملايين الثلاثة التي ستأتي إلى تركيا هي من الجهاديين، هؤلاء أصحاب تجربة في الحرب، من أجل هؤلاء أنفقنا 40 مليار دولار أميركي ولإنفاق المزيد ترفع الحكومة أسعار الغاز اليوم".

السوريون: العدو الجديد

كما هو الحال في كل هذه الجغرافيا البائسة، لا يستطيع أي من السياسيين الأتراك على اختلاف مشاربهم مخاطبة الرأي العام التركي في مسألة ما دون حشر "عدو مفترض" يجب التحذير والتخويف منه من أجل التوحد خلف ذلك السياسي لإحباط "مؤامرات" ذلك العدو. 

وبالعودة للحديث عن "حزب العمال الكردستاني" وموقف أوغان والطابور الذي يتصدره من ذلك الحزب، وإذا قبلنا بأن أي اتجاه متطرف، سواء كان دينياً أو عرقياً، هو من أكثر التيارات قابلية للاختراق وإعادة توجيه القواعد عن طريق رفع الصوت بالشعارات للتغطية على السلوك بنقيضها، فإن الطابور السياسي المؤيد للأسد وإيران في تركيا عمل خلال سنوات الحرب على حرف بوصلة العداوة وإخراج كل من الأسد (عن طريق شيطنة اللاجئين) و"حزب العمال الكردستاني" (بإهمال ذكره) من دائرة تلك العداوة، ثم تصدير السوريين "كشعب" عدواً للأمة التركية.

وفي هذا السياق، لم يتحمس جبران باسيل التركي كما يليق بـ "قبضاي" قومجي لعمليات جيش بلاده والتي نفذها في شمال سورية، سواءً "درع الفرات" في 2016 أو "غصن الزيتون" في 2018، كما لم يظهر احتفاء بالغاً بعمليات الجيش شمال العراق ضد "حزب العمال الكردستاني"، والتي كانت آخرها سلسلة عمليات "مخلب تركيا" حيث نفذها الجيش بذخائر متطورة مصنعة محلياً مقترباً بشكل جدي من مقرات الحزب الانفصالي في قنديل. 

على العكس من ذلك، وعندما كان الطرف الكردي المقابل هو البرزاني والذي تبغضه طهران بشدة، سخر أوغان شعبيته لتهييج الرأي العام التركي ودعوة الحكومة والجيش للتدخل ضد استفتاء انفصال إقليم شمال العراق في 2017، كما دعا إلى التدخل ضد البرزاني في حال عدم الانسحاب من كركوك بحجة حماية التركمان الذين يشكلون أحد مكوناتها الرئيسية.

وعند فشل الاستفتاء وانسحاب بشمركة البرزاني من كركوك (بتواطؤ من قوات الطالباني المؤيدة لإيران)، احتفى أوغان وتياره بالحدث كما لو أن كركوك ضُمت إلى تركيا كما يدعو بعض القوميين أو أن إدارتها سلمت للتركمان، متجاهلين حقيقة وقوعها تحت سيطرة مليشيات "الحشد الشعبي" (العربية والتركمانية) المعادية لتركيا صراحة، والتي أعلن أحد قادتها، أبو مهدي المهندس، أن تركيا "قوة محتلة".

السوري والأعداء الذين لا ينتهون

مع كل الحرائق التي انتشرت من شرق المنطقة إلى غربها، تزامناً مع مطالبته بالكرامة فحسب، يجد السوري اليوم نفسه أمام حشد لا يحصى من الأعداء، حشد يدعو إلى "تنظيف" بلدان اللجوء منه تحت دعاوى التفوق الجيني الباسيلي والعرقي الأوغاني. واللافت أن هذا الحشد لا يريد حتى السماح للسوريين بتجريب حظهم في أوروبا، بل يمنحهم خط عودة وحيداً فقط ليقتلهم الأسد، سواء في سجونه أو بطائراته.

يجد السوريون أنفسهم وقد أصبحوا أدسم الملفات بيد المعارضة التركية في انتخابات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فقد ظهر واضحاً بعد فقدان الحزب الحاكم بلديتي أنقرة وإسطنبول أن الدائرة المحيطة بالرئيس أردوغان قد أقنعته بأن السوريين هم أحد أهم أسباب خسارتهم الانتخابات، وهذا ما تجلى في حملة الترحيل الظالمة التي بدأت في إسطنبول. يجد السوريون في تركيا أنفسهم بين معارضة يفترض أن "يسارها" مناصر بالأيديولوجيا لحقوق الإنسان عامة واللاجئين خاصة، ولكنه يدعو لطردهم ويتشفى بمصائبهم، كما يفترض أن "يمينها" سيحرص على دعم ثورتهم لأن العدو واحد، لكنه يتهمهم بالإجرام وببيع قضيتهم ويدعو إلى تطهير البلاد منهم من جهة، وبين حزب حاكم فتح الأبواب لفرار السوريين من الجحيم، لكنه يصر حتى الآن على تقديم الرواية على أنها "منٌّ وإحسان" فحسب ولم يجرؤ على رواية أصل الحكاية بأن شواء لحم السوريين أخر عن تركيا موعدها في جدول أعمال "محور الممانعة" فخسر الحزب وخسروا من جهة أخرى. 

لا يدرك الكثير من السوريين - وهم الكادحون أغلب وقتهم - حقيقة سبب عداوة هؤلاء لهم، ويقابلون بالسخرية - وسيلتهم الوحيدة لمواجهة من لا تُتَجنب عداوته ولا يمكن هزيمته - تلك الاتهامات التي لا يعلمون كيف تم تنميطهم في إطارها من قبل المجتمع التركي، حتى إن غالبية السوريين في تركيا لم يسمعوا بوجود شخص اسمه سنان أوغان عنده فريق متخصص بالدعوة إلى طردهم، بل وقتلهم أحياناً. 

وحده الغياب الكبير للنخب هو الحاضر السوري الأكبر في ساحة هذه الحرب، كما هو الحال في كل ساحات الحروب التي تشن عليهم.

FBFC7B8C-CEE9-496B-BACF-FB73D1B87B75
إسماعيل حاج إسماعيل

خريج كلية الصيدلة جامعة حمص. مقيم في تركيا. مهتم بالشأن السوري والتركي