في الحالتين يُستهدف الجسد الفلسطينيّ فرداً وجمعاً ويستخدم حيّاً وميّتاً في سيرورة كسر الذات الفلسطينيّة وتأجيل إنسانيتها إلى أجلٍ غير مسمّى، أملاً في تبليغها تاريخ انتهاء صلاحيّة منشود.
تجميد الجثامين الفلسطينية، وأسرُها معلّقةً بين الحياة والموت، إذا اعتبرنا الأخيرين حدثين اجتماعيين ودينيين مركبّين وغير مقتصرين على مآلات وظائفيّتهما الفيزيولوجيّة، هو تجلٍّ مفجع آخر لمفهوم الفقدان الملتبِس ambiguous loss كحالة مؤسِّسة للكينونة الفلسطينية المعاصرة تنتجها وتفرضها النكبة المستمرّة على الفلسطينيين خاصّةً في الداخل.
الفقدان الملتبِس هو تعريفاً ذاك الفقدان الذي لا تتضح ملامحه ولذا يتعذّر الإمساك به والذهاب به نفسيّاً إلى منتهاه، أو إنجاز الحداد عليه. في سيرورته المثلى، يتمّ تذويت الفقدان واستدخاله في الذات الفرديّة والجماعيّة ممّا يمكّن فهمه وهضمه والتعامل مع إسقاطاته النفسية تعاملاً صحيّاً لا يعيق الحياة والمقاومة بل يغذيهما بطاقةِ بناء وتحرير.
في المقابل، ترتبط تجربة الفقدان الملتبِس بثنائية لا تلتئم: حضور جسدي وغياب نفسي (مرضى الألزهايمر مثلاً) أو غياب جسديّ وحضور نفسي (الشهداء المحتجزة جثامينهم مثلاً)، وفي الحالتين تترتّب عليه آثار نفسيّة صدميّة تطاول العلاقات والسيرورات الأسرية والاجتماعيّة لأهالي الشهداء، كأن يتجمّد الأسى، ويتخلخل المعنى الذي يسند الروح ويخفق الأمل في استحضار فكرة المستقبل واستنهاض النفس من كبوتها. شرط الفقدان الملتبس هو عدم اليقين في ما يتعلّق بموضوع الفقدان، أو الشيء المفقود، والألم الناجم عن احتدام التناقض بين حضوره وغيابه.
فقدان فلسطين هو تعريفاً فقدان ملتبِس، أي فقدان متجمّد ومبتسر وغير منتهٍ، ولذا فالقدرة على مواجهته تتعثّر بحمولات واستحقاقات نفسيّة ثقيلة ومرهقة. أن تكون فلسطينياً على أرضك وقد احتلّها الغرباء وسلبوك السيادة عليها، يعني أن تعيش فقداناً ملتبِساً لا فكاك منه: الأرض في متناول يديك وقلبك، لكنها مسيّجة بسلطة المستعمر وأسمائه وقوانينه الجائرة.
في كتابه "معماريّة الفقدان"، يقترح إسماعيل ناشف بعداً إضافياً لمعضلة الفقدان الفلسطينيّ متمثّلاً في حالة التخبّط النفسيّ الجماعيّ الناتجة عن التكراريّة الصادمة للفقدان في التاريخ الفلسطينيّ الـ ما بعد - نكبويّ، والمؤدّية إلى القفز عنه و"إجهاضه"، وصولاً إلى "فقدان الفقدان" باعتباره خللاً نفسيّاً نافذاً إلى عمق الذات الفرديّة والجماعيّة الفلسطينية يلجم تطوّرها الثقافيّ والسياسيّ ويؤخّر عودتها إلى مسرح التاريخ.
في استعارة لمجازٍ مماثل، كان الجسد دوما مسرحاً أثيراً لممارسات استعماريّة شتّى، عاثت في أكثر من زمان و مكان احتلالاً و تهجيراً و تعذيباً، استعباداً وقتلاً وبحثاً ( البحث، تقول تويهاي سميث، هي اقذر الكلمات في قاموس المستعمَر، لدورها الجوهريّ أوروبيّاً في صياغة و ترسيخ التبعيّة للمستعمِر) في جسد المستعمَر، وذلك ضمن الاجراءات المعتمدة تاريخيّاً في مشاريع ترويض الوعي الأصلانيّ وتدجينه ثقافيّاً بما ينسجم مع الرغبة الجينوسايديّة الهاجعة في اللاوعي الاستعماريّ الضاري.
هوس المستعمِر بجسد المستعمَر موثّق في أدبيات الاستعمار وما بعده. لطالما دوّنَ النصُّ الاستعماريّ تمثيلاتِه وتأويلاتِه الفوقيّة للآخر بلغة الجسد وعليه (الآخر البدائيّ الغرائزيّ الجذّاب المنفّر الخامل، إلى آخر التنميطات المرصودة لاحقاً في أرشيف الاستشراق) خُطِف الجسد المستعمَر، مكلوماً ومكتوماً، وسُجن في خطاب الاستعمار وما بعده، إلّا أَنّنا ربما نشهد له في الحالة الاستعماريّة الإسرائيليّة شكلاً مستحدثاً: حرمان الجسد من موته. الجسد الفلسطينيّ محروم من استكمال حياته ومن استكمال موته، في خضمّ دفاعه عن إنسانيته في مواجهة احتلال لا حدود لعنف لغة جسده.
إذ فضلاً عن التجميد المؤلم لحياة أهله ومحبّيه في بوتقة فقدان ملتبِس، ينطوي تجميد جثمان الشهيد الفلسطينيّ على تجريده من كرامته ومن دلالاته الاجتماعيّة والسياسيّة، وتحويله لجسد أمّي لا يقرأ ولا يكتب، أيّ لجسد دون لغة، دون إرادة ودون رسالة.
يتخذ هاجس السيطرة على الجسد الفلسطيني بكونه أداة بقاء وهويّة ومقاومة شكل هيستيريا تشتدّ مفاعيلها كلما تمرّد الجسد المحشور في قبو وجوديّ ضيّق على منطق السيّد المطمئن إلى متانة أغلاله وسطوتها التي "لا تقاوم". لكن كعادته يربك اليأس الفلسطينيّ الخلّاق منظومة فكر ديدنها الهيمنة والتسطيح العنصريّ للآخر وإمامُها عقل استعماريّ يغيب عن حساباته التوثّب "غير العقلانيّ" للروح وشوقها "غير المنطقيّ" إلى الحريّة والعدل كسائر البشر.
في مفارقة دامية، يعكس التنكيل المتصاعد للآلة الاستعماريّة الإسرائيليّة بالجسد الفلسطينيّ، حيّاً أو ميّتاً، مزيداً من الفقدان لسيطرتها على الواقع وروايته في ما يشبه اللجوء المحموم إلى "ديوس إكس ماكينا" يعيد زمام المبادرة إلى الخطاب الصهيونيّ الذي يبدو مترنّحاً وهو في أعتى سكرات قوّته.
* كاتب وباحث سيكولوجي فلسطيني/ شفا عمرو