كيف يمكن لميزان النقد أن يشير إلى شاعرية شاعر؟ وهل ثمة شعراء مدينون بشهرتهم لسياقات تاريخية محدّدة؟
يبدو أن هذين السؤالين أرّقا في الماضي الأستاذ الجامعي والناقد الأدبيّ، منير العكش، ضيف هذا العدد من "ملحق الثقافة"، وما يزالان يؤرقانه في الحاضر.
والشاعرية الحقّة بالنسبة إليه، هي ما يمكن أن يتوافر عليه الشاعر مما يسمى "الجوهر الباقي"، الذي ينأى به عن امتلاك هذا اللقب فقط بحُكم مصادفة مؤقتة أو بسبب "عامل خارجي طارئ".
ووفقاً لما يقوله العكش، يعود نسب "المصادفة" لشاعر ما إلى مقالة صحافية بعنوان "شعراء بالمصادفة" كان قد كتبها في مجلة أسبوعية قبل عدة أشهر من وصول محمود درويش إلى بيروت سنة 1971 وذكر فيها اسمه، فيمن ذكر، قائلاً إن "القضية الفلسطينية" هي التي صنعت من درويش "نجماً"، وقد استدعى ذلك معاتبة هذا الأخير له.
ويضيف أنه في تلك الفترة أجرى لقاء مع درويش نشره لاحقاً في كتابه "أسئلة الشعر"، وجرى التطرّق في سياقه أيضاً إلى هذه المسألة، حيث حرص الشاعر على أن يشير إلى أنه مدين للمصادفة حقاً، لكنه في الوقت عينه متمرّد عليها، وأساساً من خلال البحث عن القوّة الذاتية الموجودة فيه إذا كانت موجودة فعلاً، وهو ما يعني بكلماته النسف المستمر للعامل الخارجي الطارئ وتعميق الجوهر الباقي.
نظراً إلى تزامن هذا الكلام مع حلول الذكرى السنوية السابعة لرحيل درويش الأسبوع الفائت، أعيد إلى الأذهان أنه في سنة 1961 نشر أوّل "شهادة ذاتية" له عن الشعر في مجلة "الجديد" الأدبية التي كانت تصدر في حيفا.
ولدى مراجعة ما جاء فيها يمكن أن نؤصّل مشروعه الشعري في ذلك الوقت على قاعدة الحاجة إلى تجديد العلاقة بين الشاعر الفلسطيني، الذي بقي في وطنه بُعيد نكبة 1948، وبين كل ما هو أساس في الثقافة العربية والثقافة العالمية.
اقرأ أيضاً: من الأوّل، الوعي المزدوج
وهذه القاعدة هي النتيجة التي يتوصّل إليها الشاعر، بموجب ما تقول الشهادة من دون مواربة، بعد تشخيصه ظاهرة ضعف التركيب اللغوي للقصيدة ووهن بنائها، وهي الظاهرة التي كانت تطبع أكثر الشعر الفلسطيني الباقي في الوطن. وهو يؤكد أنه إذا بحثنا عن سرّ هذا لوجدنا ببساطة أنه عائد إلى عدم التعمّق في دراسة الأدب القديم والتراث الوطني لشعبنا.
"إن الشاعر الحقّ- يقول درويش- ليس فقط الذي يصوّر واقع شعبه ونفسيته، ولكنه الذي يربط هذا الواقع بتاريخه الماضي وتراثه القديم، الشاعر كما يصوّر المستقبل، يأخذ من الماضي. يجب أن تكون للشاعر جذور عميقة وأرض يابسة يقف عليها، ويأخذ من أساطير شعبه وحكايته مادة رائعة يمزجها مع واقعه".
ويتهم "شعراء الوطن" أنهم بلا جذور، بلا ماض، وهذا يعود إلى عدم اهتمامهم بدراسة تاريخ أمتهم وتراثهم الخالد. ويرى أن ضعف وضحالة الثقافة الوطنية من الظواهر الخطرة في أدبنا، ما يحتّم العودة إلى تاريخنا لكي نأخذ منه، ونشعر بعقلنا وإحساسنا بالجذور العميقة التي تشدّنا إلى التاريخ.
من هذا ينتقل درويش، في الشهادة ذاتها، إلى توصيف أهم عناصر أزمة الثقافة الفلسطينية الباقية في الوطن بعد 1948 وتحت تأثير واقع الحصار الذي أخضعت له، فيكتب قائلاً:
"... وإلى جانب ضعف ثقافتنا العربية يقف ضعف ثقافتنا الأجنبية. قليلون منّا هم الذين يجيدون لغة غير اللغة العربية. وعدم إجادة لغة أخرى يقطعنا قطعاً مؤلماً عن العالم والآفاق الأدبية، هذا إذا ما عرفنا أيضاً أننا منقطعون عن موارد الثقافة العربية الحديثة والأدب العربي، بسبب الحصار الأدبي الذي فرضته علينا الحالة السياسية. فإلى أين نذهب إذاً؟ ولمن نعمد؟ إذا كنا مخلصين حقّا لمهمتنا ومقدرين لخطورة القضية الإنسانية التي نعمل لها، فعلينا أولاً أن نبحث عن الثقافة، الثقافة في كل شيء، لنلقح الموهبة والطاقة الأدبية في نفوسنا. ولكن من أي طريق نصل إلى هذه الثقافة، ليس أمامنا إلا اللغة الأجنبية. إنني متأكد من صعوبة القضية وجديتها. ولكن الأدب ليس عملاً سهلاً وهيناً".
قد يطرح بعض الناس مدى صدقية "الشهادة الذاتية" كمصدر لتقييم التجارب الأبدية من عدم صدقيتها. مع ذلك ففي التجربة الناجزة لدرويش خلال مسيرته الأدبية ما يؤكد أنها لم تُترك لسطوة الخارجي الطارئ، وأنها وهي ماضية في تعميق الجوهر الباقي كانت تشفّ أكثر فأكثر عن "نداء الداخل".
يبدو أن هذين السؤالين أرّقا في الماضي الأستاذ الجامعي والناقد الأدبيّ، منير العكش، ضيف هذا العدد من "ملحق الثقافة"، وما يزالان يؤرقانه في الحاضر.
والشاعرية الحقّة بالنسبة إليه، هي ما يمكن أن يتوافر عليه الشاعر مما يسمى "الجوهر الباقي"، الذي ينأى به عن امتلاك هذا اللقب فقط بحُكم مصادفة مؤقتة أو بسبب "عامل خارجي طارئ".
ووفقاً لما يقوله العكش، يعود نسب "المصادفة" لشاعر ما إلى مقالة صحافية بعنوان "شعراء بالمصادفة" كان قد كتبها في مجلة أسبوعية قبل عدة أشهر من وصول محمود درويش إلى بيروت سنة 1971 وذكر فيها اسمه، فيمن ذكر، قائلاً إن "القضية الفلسطينية" هي التي صنعت من درويش "نجماً"، وقد استدعى ذلك معاتبة هذا الأخير له.
ويضيف أنه في تلك الفترة أجرى لقاء مع درويش نشره لاحقاً في كتابه "أسئلة الشعر"، وجرى التطرّق في سياقه أيضاً إلى هذه المسألة، حيث حرص الشاعر على أن يشير إلى أنه مدين للمصادفة حقاً، لكنه في الوقت عينه متمرّد عليها، وأساساً من خلال البحث عن القوّة الذاتية الموجودة فيه إذا كانت موجودة فعلاً، وهو ما يعني بكلماته النسف المستمر للعامل الخارجي الطارئ وتعميق الجوهر الباقي.
نظراً إلى تزامن هذا الكلام مع حلول الذكرى السنوية السابعة لرحيل درويش الأسبوع الفائت، أعيد إلى الأذهان أنه في سنة 1961 نشر أوّل "شهادة ذاتية" له عن الشعر في مجلة "الجديد" الأدبية التي كانت تصدر في حيفا.
ولدى مراجعة ما جاء فيها يمكن أن نؤصّل مشروعه الشعري في ذلك الوقت على قاعدة الحاجة إلى تجديد العلاقة بين الشاعر الفلسطيني، الذي بقي في وطنه بُعيد نكبة 1948، وبين كل ما هو أساس في الثقافة العربية والثقافة العالمية.
اقرأ أيضاً: من الأوّل، الوعي المزدوج
وهذه القاعدة هي النتيجة التي يتوصّل إليها الشاعر، بموجب ما تقول الشهادة من دون مواربة، بعد تشخيصه ظاهرة ضعف التركيب اللغوي للقصيدة ووهن بنائها، وهي الظاهرة التي كانت تطبع أكثر الشعر الفلسطيني الباقي في الوطن. وهو يؤكد أنه إذا بحثنا عن سرّ هذا لوجدنا ببساطة أنه عائد إلى عدم التعمّق في دراسة الأدب القديم والتراث الوطني لشعبنا.
"إن الشاعر الحقّ- يقول درويش- ليس فقط الذي يصوّر واقع شعبه ونفسيته، ولكنه الذي يربط هذا الواقع بتاريخه الماضي وتراثه القديم، الشاعر كما يصوّر المستقبل، يأخذ من الماضي. يجب أن تكون للشاعر جذور عميقة وأرض يابسة يقف عليها، ويأخذ من أساطير شعبه وحكايته مادة رائعة يمزجها مع واقعه".
ويتهم "شعراء الوطن" أنهم بلا جذور، بلا ماض، وهذا يعود إلى عدم اهتمامهم بدراسة تاريخ أمتهم وتراثهم الخالد. ويرى أن ضعف وضحالة الثقافة الوطنية من الظواهر الخطرة في أدبنا، ما يحتّم العودة إلى تاريخنا لكي نأخذ منه، ونشعر بعقلنا وإحساسنا بالجذور العميقة التي تشدّنا إلى التاريخ.
من هذا ينتقل درويش، في الشهادة ذاتها، إلى توصيف أهم عناصر أزمة الثقافة الفلسطينية الباقية في الوطن بعد 1948 وتحت تأثير واقع الحصار الذي أخضعت له، فيكتب قائلاً:
"... وإلى جانب ضعف ثقافتنا العربية يقف ضعف ثقافتنا الأجنبية. قليلون منّا هم الذين يجيدون لغة غير اللغة العربية. وعدم إجادة لغة أخرى يقطعنا قطعاً مؤلماً عن العالم والآفاق الأدبية، هذا إذا ما عرفنا أيضاً أننا منقطعون عن موارد الثقافة العربية الحديثة والأدب العربي، بسبب الحصار الأدبي الذي فرضته علينا الحالة السياسية. فإلى أين نذهب إذاً؟ ولمن نعمد؟ إذا كنا مخلصين حقّا لمهمتنا ومقدرين لخطورة القضية الإنسانية التي نعمل لها، فعلينا أولاً أن نبحث عن الثقافة، الثقافة في كل شيء، لنلقح الموهبة والطاقة الأدبية في نفوسنا. ولكن من أي طريق نصل إلى هذه الثقافة، ليس أمامنا إلا اللغة الأجنبية. إنني متأكد من صعوبة القضية وجديتها. ولكن الأدب ليس عملاً سهلاً وهيناً".
قد يطرح بعض الناس مدى صدقية "الشهادة الذاتية" كمصدر لتقييم التجارب الأبدية من عدم صدقيتها. مع ذلك ففي التجربة الناجزة لدرويش خلال مسيرته الأدبية ما يؤكد أنها لم تُترك لسطوة الخارجي الطارئ، وأنها وهي ماضية في تعميق الجوهر الباقي كانت تشفّ أكثر فأكثر عن "نداء الداخل".