عن التجنيد الإجباري

26 ابريل 2016
+ الخط -
عرف العالم التجنيد الإجباري أول مرة في سويسرا في القرن السادس عشر للميلاد، وتبعتها فرنسا في القرن الثامن عشر، ومع بداية الحرب العالمية الثانية، عرف العالم كله التجنيد الإجباري، بفعل الحرب وضرورة الدفاع عن المدن.
أما في مصر فلم تعرف التجنيد الإجباري إلا مع حكم محمد علي، وقد وصف المؤرخون تجنيد محمد علي للمصريين بالفاجعة، وذكر خالد فهمي، في كتابه "كل رجال الباشا"، إنه عندما كانت تأتي حملة التجنيد قرية مصرية ما، فيسمع بها أهل القرى المجاورة، فيهجرها أهلها هاربين من حملة التجنيد. وكان المصريون يستميتون في الهروب من التجنيد، فكان منهم من يضع السم في عينه حتى يصاب بالعمى، ومنهم من يقطع إصبعه فيصاب بعاهة، فيعده الأطباء غير صالح، وقد استمر هروب المصريين من التجنيد طوال حياة محمد علي، حتى أصدر قانونا يضع به مفتعلي عاهاتهم في ليمان الإسكندرية، وفي التجنيد كانوا يعاملون أقصى معاملة، ليطيعوا الأوامر، ويتعرضون لاستهزاء الضباط الأتراك.
صحيح أنهم دخلوا الجيش، لكن محمد علي كان حريصاً على أن يكونوا مجندين، وكفى! لا يترقون للمراكز العليا في الجيش، وبهذا الجيش من المصريين الذي كوّنه محمد علي انتصر على الجيش العثماني، وحقق أطماعه في الشام، وغلب الوهابيين ودخل عاصمتهم الدرعية، وكوّن امبراطوريته التي كان يحلم بها .
في عهد سعيد باشا، جعل التجنيد على كل المصريين، بعد أن كان قاصرا على الفقراء دون أبناء الأعيان، وقد ارتكبت على مر التاريخ مجازر باسم التجنيد الإجباري، ففي مصر وحدها أرسل محمد علي الجيش لإخماد تمرد في الصعيد، فقتل الجيش أربعة آلاف فلاح، منهم جندي وجد في المتمردين أباه فقتله، فرقاه محمد علي على إثر ذلك .
استخدمت انجلترا نفسها السلاح نفسه في احتلال فلسطين بإنشاء ما يسمى "التجريدة المصرية"، عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وكانت الدولة العثمانية شاركت في الحرب، فطردت إنجلترا الخديوي عباس حلمي الثاني، وأعلنت الحماية البريطانية على مصر، وولت السلطان حسين كامل عليها في 1914، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، تكررت هزيمة انجلترا عند غزة، وفشل ماري بجنوده في دخول غزة واحتلالها مرتين، فأعلنت السلطات البريطانية تولية اللنبي، فأنشأ التجريدة المصرية في 10 مارس1916، وكانت تضم جيش مصر بإمرة ضباط إنجليز، وكان قد بلغ تعداد الجيش مليون ومائتي ألف، في الوقت الذي كان تعداد سكان مصر 12مليون نسمة، فاقتحم اللنبي غزة، واستبسلت الحامية العثمانية في الدفاع عنها، حتى هزمها أللنبي، ودخل القدس في ديسمبر 1917.
والآن، ونحن في 2016، يجند آلاف الشباب في الجيش المصري، ليعملوا إما في مصانع الجيش أو يقفون خدمة للوطن 12 ساعة، ليسهروا لحماية الوطن ويتقاضوا راتبا زهيدا قيمته 400 جنيه مصري، بما يعادل 40 دولار بجانب كم الإهانات التي يتعرض لها البعض من الشباب، وقد اتضح ذلك جليا في تقرير أعدته "بي بي سي- عربي"، نشرته قبل ثلاثة أسابيع بعنوان "موت في الخدمة"، يتعرض خلالها المجند، خصوصاًً مجندو الأمن المركزي الأميين للاستغلال من بعض الضباط الذين يرون أن هذا الجندي لم يأت لخدمة الوطن، بل لخدمة الضابط وبعض الرتب. وبعيدا عن هذا، فإن تكلفة السفر إلى مناطق معسكرات الجيش بالنسبة للمجندين تمثل تكلفة إضافية، عليهم أن يتحملونها من نفقتهم الخاصة، على الرغم من أن مؤسسة الجيش أعلى مؤسسات الدولة المصرية دخلا، ويقدر اقتصاديون أن الجيش يسيطر على 60% من الاقتصاد المصري، فالجيش الذي يقيم المصانع من دون أن يدفع ضرائب أو أجور عمال يمثل منافسا لغيره من المصانع التي تدفع الضرائب وترهقهم أجور العمال مقارنة به، وهو الذي يشغل مئات المجندين براتب بخس، لا يمثل بالنسبة له أي تكلفة.
ويذكر أن التجنيد الإجباري ألغته نيوزيلاندا والهند وباكستان والولايات المتحدة وأستراليا، فهو التحكم بحياة شاب في مقتبل العمر يسعى إلى تكوين ذاته، فيقابله المتعجرف طالباً حق الوطن، وما هو يريد حق الوطن، وإنما يريد استرقاقه باسم القانون، فوالله ما يرضي الله أن يستعبد أبناء الوطن، تاركين مستقبلهم وعلومهم وما درسوه، بل حتى الشرع ما أجاز هذا إلا إن كان هناك اعتداء من عدو خارجي، والعدو قد حالفتموه، فاتركوا شباب مصر ومستقبلهم.
avata
avata
محمد السؤالي (مصر)
محمد السؤالي (مصر)