عن أهل الكهف

16 مايو 2015
+ الخط -
ارتبط فعل الطهو، كابتكار إنساني عظيم، وواحد من أهم تجليات اكتشاف النار، بالمرأة حصرياً. تقدّم، في سائر الثقافات الإنسانية، وظائفها البديهية المفترضة في الحياة، شأن الحمل والولادة. أجمعت الإنسانية، منذ فجر التاريخ، على تكليف المرأة بهذه المهمة، حتى لو كانت غير بارعة، أو غير راغبة في إتقان أسرارها، فصارت من حقائق الحياة غير القابلة للشك، أو حتى التأمل. ولتلك الصورة النمطية ما يبررها، من وجهة نظر أنثروبولوجية، حين تعيّن على الذكر مواجهة قوى الطبيعة القاسية، من برد وريح ومطر وعواصف وأعاصير وثلوج وحر وقيظ وجفاف، مصارعاً الوحوش والضواري والكواسر، معرضاً نفسه، في كل مرة، إلى التهلكة، سعياً غريزياً وراء الطرائد، لكي يعود محملاً بالغنائم، ويلقي بنفسه منهكاً على أقرب مصطبة حجرية، محتاجاً إلى نوم عميق، يسترد بها عافيته، تمهيداً لرحلة أهوال أخرى، يعود إلى الكهف الدافئ الآمن الذي مكثت فيه الأنثى، حارسة وحامية، ومكتشفة للزراعة، ولمهارات وفنون أخرى وثقتها جدران الكهوف، تنهمك في طهي ما انتزعت يداه القويتان من قوتٍ، يقي صغارها شر الموت جوعاً.
حصل هذا التقسيم البدائي للأدوار، بحكم الضرورة والغريزة. طيب، ما هو مبرر استمرار التقسيم الوظيفي نفسه، على الرغم من تبدل الحال؟ إذ إنه، وحتى عهد قريب، كانت (ماما تطبخ وبابا يقرأ) في مناهج المدارس الابتدائية، حيث تتكون شخصية الطفل ويتشكل وعيه، وإذا افترضنا جدلاً أن الأب المعاصر يقوم بمهمة الصيد منفرداً، فإن مهمته الجليلة تتلخص في الذهاب إلى (المول)، مزوداً بقائمة المواد الغذائية المطلوبة للعائلة. يركن سيارته في مكان مخصص، يتوجه متثاقلاً يقود العربة الحديدية، ذات العجلات الصغيرة إلى المكان المكيّف، حيث تنبعث موسيقى هادئة خافتة، تلاقيه وجوه المستخدمين بابتسامات ودودة، منصوص عليها في عقود العمل.
ينتقي مشترياته، وقد وفّرت له الإدارة كل أسباب الاسترخاء. ينقد المحاسب الثمن، ريثما ينتهي العامل من وضعها في العربة، متوجها بها جراً إلى صندوق السيارة الخلفي، ويقبض إكراميته سعيداً. وقبل أن يصل إلى البيت، يهاتف حارس العمارة، كي ينقل الأغراض الكثيرة إلى الشقة، ثم يرتمي على الصوفا منهكاً، وقد يذهب في قيلولةٍ، أو يتابع أحداث مباراة كرة قدم بين مدريد وبرشلونه، وتتجه المرأة، بآلية تامة، إلى المطبخ، حيث تترقب العائلة انبعاث روائح تشي بأن الطعام صار جاهزاً.
لم يطرأ أي تعديل على هذه الصورة النمطية المكرسة في بيوتنا، على الرغم من أن المرأة غادرت الكهف منذ قرون، وأصبحت شريكة فاعلة في عملية الصيد وجلب الرزق، من خلال انخراطها وتمييزها وتفوقها، أحياناً كثيرة، في كل المهن التي يزاولها الرجل. ليس القصد، هنا، التقليل من شأن الطهي، فهو نشاط إنساني حضاري رفيع، ويعد من أهم مفردات ثقافة أي جماعة إنسانية وحضارتها وهويتها، وهو فن وموهبة ومزاج وذائقة ومخيلة وقدرة على الابتكار، من خلال مزج عناصر مختلفة، واجتراح أشكال جديدة، فلا يختلف، بهذا المعنى، عن أي فعل إبداعي آخر.
ثمّة في العالم أسماء لطهاة كبار حققوا مجداً وشهرة وثروات طائلة، أسسوا معاهد وأكاديميات، وأنشأوا قنوات فضائية، وألفوا كتباً، لأنهم خرجوا بالطهو من حيزه الضيق، دوراً أنثوياً حصرياً، ليصبح فناً وصناعة كبرى، تشهد تنافساً حاداً. لكن، ليس بالضرورة أن كل أنثى طاهية بالفطرة، والمعروف أن أشهر طهاة العالم من الرجال القادرين على إبهار المتلقي بإنجازهم الفني الفذ. وهناك، في المقابل، نساء يمقتن الطهو، ويعتبرنه عبئا ثقيلاً، يقمن به كرهاً ضمن منطق الواجب. الفكرة أن نقبل على فن الطهو بمتعة، وأن نعتبره مساحة تعبيرية عن ذواتنا، ونشحن أطباقنا التي سيغدو مذاقها أفضل بطاقة إيجابية، ونرتقي بها إلى مستوى مختلف من الإبداع، مكونه الأساسي الحب. وهذا أمر متوقف على روح الطاهي، ومدى قدرتها على التحليق، بغض النظر عن خانة نوع الجنس المثبتة في الوثائق الرسمية.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.