عندما يصبح الاعتقال السياسي من ذكريات الطفولة

18 مارس 2015
+ الخط -

منذ أن يبدأ وعي الطفل المصري في التفتح ودخوله مراحل التعليم المختلفة تقابله عبارة مكتوبة على جدران مدرسته وفي كتبه الدراسية تقول إن الأطفال هم مستقبل الأمة وأملها المنشود، وتظل العقود تتعاقب وتتغير الأنظمة والعبارة ثابتة لا تتغيّر، اعتاد على قراءتها كل المصريين في ظل واقع لم يكن يعبر عنها، فأمل الأمة المصرية يمكن أن تراهم أطفال شوارع أو متسوّلين أو ربما تجدهم عاملين في مهام تنتهك إنسانيتهم، فضلاً عن طفولتهم التي لا ينبغي أبداً أن تصبح كذلك، وربما وقفت لتصلي في جنازة أحدهم بعد أن مات في وسيلة مواصلاته التي تقله إلى مدرسته أو بعد أن سقط عليه لوح زجاج في فصله الدراسي.

وأخيراً، لم يعد مستغرباً أن تقرأ أخباراً عن طفل سقط ضحية تفجير أو آخر ذهب لتشجيع ناديه الرياضي فعاد إلى أمه محمولاً في نعشه، أو ثالث وجد في ظل اشتباكات بين قوات النظام المصري ومعارضيه فسقط ضحية لها. لكن في مصر الآن يرفع الكثيرون شعار "الموت راحة" والعذاب الحقيقي هو لمن بقي على قيد الحياة في هذا الوطن، ولأن الأطفال جزء منه كان لهم من عذابه نصيب.

فمع نهاية العام المنصرم 2014 نشرت المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفل تقريراً وصفت فيه ذلك العام بأنه الأسوأ بحق الطفولة في مصر. فإضافة إلى كل ما يتعرض له الأطفال من انتهاكات، تعرفوا إلى لقب "سجين سياسي"، فقد سجل العام الماضي فقط، اعتقال أكثر من 623 طفلاً من قبل قوات الأمن المصرية وجهت إليهم تهم سياسية، ولا يتوقف الأمر عند حد اعتقالهم، بل يمتد إلى تعرضهم إلى الكثير من الانتهاكات النفسية والجسدية.

ورغم الحصون المنيعة التي تحيط بأماكن احتجازهم، لكن هوية قديمة أمتلكها، تحمل صفة أخصائية اجتماعية في جهة حكومية ساعدت كثيراً في اختراق تلك الحصون للحظات. فحتى مع الصفة الرسمية ممنوع التحدث مع الأطفال بحجة خطورتهم، وما ترغب فيه من معلومات مصدره الوحيد المشرف الاجتماعي في المؤسسة الذي دوماً يتحدث عن برامج التأهيل النفسي للأطفال ومعاملتهم معاملة حسنة، حتى إن المستمع له ربما يتمنى أن يصبح نزيلاً لديه في الدار، وحتى تصل للحقيقة لا بد من بعض الحيل التي تمكنك من التجول للحظات قليلة في المكان قبل أن يكشف أمرك باختراقك للمحظور وتحدثك مع الأطفال.

في مسجد مؤسسة المرج العقابية التقينا عمرو (13 عاماً)، طالب المرحلة الإعدادية، ألقي القبض عليه في حلوان أثناء مشاركته في تظاهرة رافضة للانقلاب العسكري "بحسب وصفه"، رأى هتافه فيها هو أبسط الحقوق المشروعة التي يمكن أن يمارسها ليعبر عن غضبه من اعتقال أبيه على ذمة قضية سياسية واستشهاد صديقين له، أحدهما لقي حتفه أثناء فض اعتصام رابعة العدوية والآخر أثناء فض قوات الأمن المصرية لتظاهرة في منطقة حلوان في محافظة القاهرة.

يقول عمرو إن مشرفي المؤسسة يقدمونه إلى باقي السجناء باعتباره إرهابياً شارك في التفجيرات المتعددة التي شهدتها مصر في الآونة الأخيرة، ويطالبونهم بتجنبه وعدم الاستماع له، ويواجه عمرو تهم الاشتراك في تنظيم تظاهرة مسلحة وغير مرخصة والانضمام إلى تنظيم إرهابي.

بينما يحكي "سالم"، 17 سنة، حكايته في الوصول لهذا المكان، "كنت أشتري بعض الملابس من منطقة رمسيس ثم بدأت اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين، فذهبت لأحتمي بالمسجد وأثناء خروجي اعتقلتني الشرطة وذهبت إلى معسكر الأمن المركزي في طرة لمدة 4 أيام، بعدها انتقلت إلى سجن وادي النطرون، وبقيت فيه 55 يوما، ثم إلى هذا المكان بعد أن وجهت إليَّ تهم القتل والشروع في القتل والتجمهر والتعدي على رجال الشرطة والجيش والانضمام إلى جماعة محظورة، وأحاكم الآن أمام محكمة الجنايات".

ويضيف سالم "نتعرض هنا لكل أشكال التعذيب فأحد المختصين هنا ويدعى "م.س" يجعل العساكر يجردوننا من ملابسنا ويقومون برشنا بالمياه، ويأمر المسجونين الجنائيين بالتعدي علينا نحن المسجونين السياسيين داخل الزنازين، لكن أسوأ تعذيب أتعرض له هو أني لا أستطيع تناول الطعام والشراب لأيام حتى لا أضطر إلى دخول الحمامات التي بلا أبواب تستر من يدخلها".

وقبل أيام تلقينا اتصالاً من سالم يخبرنا بأنه تم الإفراج عنه على ذمة القضية بكفالة ألف جنيه مصري بعد إصابته بمرض جلدي وخوف مسؤولي المؤسسة العقابية من انتقاله إلى الموجودين فيها. أما عبد الرحمن البالغ من العمر أربعة عشر عاماً فكان الأكثر جرأة، إذ بدأ حديثه قائلاً "نعم ألقيت عليهم المولوتوف ولم أنكر ذلك أمام النيابة". وأضاف موضحاً سبب جرأته "أنا حضرت فض اعتصام رابعة العدوية، واستشهد أخي برصاصة في رقبته أمام عيني واعتقل أخي الآخر أثناء مشاركته في مظاهرة سلمية ولم تحميه سلميته منهم، فكيف أقف صامتاً وأنا أرى الداخلية تعتدي على مسيرة تشارك فيها أمي وأختي؟".

وعن حياته في المؤسسة يقول أحمد "علمني أبي رحمة الله عليه أن السجن في سبيل تحرير مصر جهاد في سبيل الله مثله مثل الجهاد من أجل تحرير الأقصى، لا يهمني السجن، فقط كنت أتمنى أن توافق المؤسسة على إعطاء أمي أوراقاً رسمية لتستطيع تأجيل دراستي، لكنهم رفضوا وضاعت السنة الدراسية".

ويروي ما يتعرض له من انتهاكات: "العاملون في المؤسسة يأتون للراحة ونقوم نحن بأدوارهم، فنرتب العنابر وننظف دورات المياه، ومن يرفض يُعاقب على الفور بالضرب أو التوبيخ، باستثناء عامل واحد عندما يغضب من شخص يجبره على دخول دورة المياه والتبول والتبرز، حتى إن لم يكن لدى جسده حاجة وإن كان مستفزاً بشدة فحينها يجبره على ممارسة العادة السرية أمامه".

أما خارج المؤسسة العقابية فقد أكد أحمد المصلحي، المستشار القانوني للمؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفل، أن وزارة الداخلية تنتهج نفس منهاجها في التعامل خلال عهد مبارك، فتقوم باحتجاز الأطفال داخل معسكرات الأمن المركزي، وتحتجزهم مع بالغين، وهذا مخالف للقانون والدستور والمواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر بخصوص حقوق الأطفال.

وأضاف أن هناك انتهاكاً آخر غير معلن وهو سعة المؤسسة العقابية التي تتسع لـ 700 بينما يحتجز بها فعلياً أكثر من 1200طفل، مما يعني أن أكثر من 500 طفل يفترشون الأرض للنوم.

وأوضح أن المؤسسة قدمت بلاغات ضد وزير الداخلية وضد رئيس مصلحة السجون، خاصة بعدما كررت قوات الشرطة الاعتداء على المحامين الذين طلبوا الالتقاء بالأطفال داخل أماكن احتجازهم.

وأنهى المصلحي حديثه قائلاً "لا بد من فتح تحقيق فوري عادل لإيقاف هذه التجاوزات التي ترتكب بحق الأطفال من تعذيب يومي داخل السجون، لأن هذا يخالف المادة (80) من الدستور الذي أيّده 99% من الشعب المصري، ولا بد من عرض الأطفال علي محكمة الطفل وليس الجنايات، لأن هذا انتهاك آخر".

وتؤكد "مروة جمال"، المختصة في الطب النفسي، أنها والفريق المعاون لها تأكدوا بالفعل من تعرض الأطفال للتعذيب الجسدي والجنسي، فضلاً عن النفسي داخل مؤسسات احتجازهم.

وتضيف مروة قائلة "الطريقة التي تنتهجها الشرطة في التعامل مع الأطفال المحتجزين من التعذيب والمعاملة السيئة تجعل الطفل صاحب عداء شديد للسلطة أولاً وللمجتمع ككل، في الواقع الدولة لا تحارب الإرهاب كما تدعي بل تصنع جيلاً جديداً سينتهج الإرهاب بحق".


(مصر)

المساهمون