قام الممثل المصري الرائد عمر وصفي (1874- 1945) برحلة إلى سورية في عام 1897 بصحبة أستاذه أبو خليل القباني، بحثاً عن المطربة ملكة سرور التي كانت تغني في حلب. وقد دوّن وصفي وقائع رحلته في مذكراته الفنية التي ستصدر قريباً بتحقيقنا عن دار المتوسط في ميلانو. خاض عمر وصفي تجارب مسرحية عديدة قبل أن يلتحق بجوق القباني السوري - المصري، إذ عمل في "جوق السرور" مع ميخائل جرجس، وأجواق سليمان القرداحي، وسليمان الحداد، وإسكندر فرح.
وحين انضم إلى القباني، ظهرت مواهبه الكوميدية دفعة واحدة، وغدا نجماً يشار إليه بالبنان، وعمل إدارياً مساعداً لعبد الرزاق بك عناية شريك القباني، وأحد أبرز المساهمين في نهضة المسرح في مصر. كان وصفي مشهوراً بأنه حكَّاء ساخر، لا ينجو أحد من سلاطة لسانه، فقد ذكر زميله الراحل الكبير نجيب الريحاني أنه كان يتعرض في بداياته لمقالب من جانب "الأستاذ الأفخم عمر وصفي، بطل شك المقالب وانتقاء النكات المستوية في مادة التأليس على محسوبكم الفقير إليه تعالى"، ووصفه في مكان آخر من المذكرات بأنه "شيخ طائفة المطفشين". وفي ما يأتي مقتطفات من رحلته إلى سورية:
بحثاً عن مطربة
فكر الشيخ أبو خليل طويلاً في أمر أولئك الذين يقضون سهرتهم بين المسرحين، وأخيراً وُفق إلى أن يذهب إلى سورية، ويحضر إحدى مطرباتها لتغني للجمهور خلال الفصول، وبذلك تشغلهم عن الذهاب إلى مسرح إسكندر فرح وتغنيهم عن سماع الشيخ سلامة. وعرض هذا الأمر على شريكه عبد الرزاق بك، فوافق عليه، واتفقوا معاً على دعوتي للسفر مع أبي خليل حتى يأمنا عودتي إلى إسكندر فرح، ويأمن عبد الرزاق بك عودة أبي خليل حتى لا يعيد قصة العام الماضي، وأسرَّ لي عبد الرزاق أن أكون على أبي خليل رقيباً، وكانت رحلتنا إلى الشام ممتعة شيقة. قد لا تجد في حديثي اليوم شيئاً عن التمثيل، ولكنه مع ذلك حديث لا بد منه، فهو صفحة من تاريخ حياتي في التمثيل.
حين انضم إلى القباني، ظهرت مواهبه الكوميدية دفعة واحدة، وغدا نجماً يشار إليه بالبنان
فلأحدثك عن غرائب الماضي وأعاجيبه في هذه الرحلة التي اختارني فيها المرحوم الشيخ أبي خليل لأكون رفيقاً له، واختارني فيها عبد الرزاق بك لأكون رقيباً، وكان في صحبتنا أفراد الفرقة السوريون، جاؤوا ليزوروا أهلهم وذويهم، ثم أحمد أفندي توكل، وهو من مشاهير تجار "الملس" بالغورية، كان صديقاً لأبي خليل، وشريكاً لولده خليل القباني التاجر بدمشق.
تركنا بورسعيد، تلك المدينة التي أذكر فيها أيام أستاذي المحبوب سليمان حداد، وركبت لأول مرة في حياتي البحر، فمضينا ليلة واحدة والمركب يجري فوق بحر هادئ، فلم أشعر بدوار ولا تعب، وظل المركب يسير بنا حتى بلغنا في الصباح مدينة بيروت.
هجوم
ما كادت ترسو المركب في ميناء بيروت حتى هاجمتنا جيوش لا تحصى من الحمالين على مراكبهم الصغيرة، فأحاطوا بالمركب وقفز الحمالون فانقضوا علينا انقضاض الغربان، والطريقة التي يتقدمون فيها إلى الزبون ليحملوا أمتعته هي طريقة مبتكرة، إذ يخطفون الزبون خطفاً فيلقونه في القارب ويتبعونه بأمتعته. جاء هؤلاء الغزاة فملأوا السفينة، وعلا ضجيج الركاب وصياحهم من المعاملة القاسية التي يعاملونهم بها، ولكن ما الحيلة وتلك طريقتهم في صيد الزبائن.
وتركنا الجمرك بعد أن تمت إجراءات التفتيش والرسوم، على أني لا أنسى ما عاملني به موظفو الجمرك وعاملوا به كل مصري في المركب من التساهل والتسامح.. وسألت إخواني عن ملاهي المدينة ومطربيها، ولكنهم أفهموني أن الليلة تتعطل الملاهي لأنها ليلة السبت، وكل المطربات من اليهود. والمسلمات؟ أليس لديكم كما هو الحال في مصر مطربات مسلمات أمثال اللواندية وغيرها؟ ولكني علمت أن هذا السؤال غير جائز حتى التحدث عنه، إذ إن المسلمات يجب ألا تذكر أسماؤهن في مثل هذا.
إلى دمشق
مرّ بنا القطار الذي أقلّنا إلى دمشق بين الوديان والجبال، بين مناظر نسقتها الطبيعة الماهرة أجمل تنسيق، وما زال منساباً بين الجبال والوديان مخترقاً النفق حتى ولّى النهار أو كاد، ووقف عند محطة قبل دمشق، فإذا بها غاصّة بوفود المهنئين، قدموا خاصة لاستقبالنا، وقد أعدوا لنا العربات والخيل، ودعونا إلى النزول فنزلنا، وقد رحبوا بنا أبلغ ترحيب، وركبنا العربات ومضوا بنا إلى حديقة متسعة الأرجاء، وهناك أعدوا لنا ما لذَّ من مرطبات تلك البلاد، فأقمنا قليلاً ريثما استرحنا، ثم أقلّتنا العربات إلى دمشق، إلى بيت أبي خليل القباني.
في ضيافة القباني
بيت فسيح بسور شاهق البناء، من داخله حديقة غنّاء غُرست فيها الأشجار الباسقة، وقد توسطتها نافورة، أو بحراية، كما يدعونها، عظيمة يتدفق ماؤها، ودخلنا الدار فإذا غرف فسيحة أشبه بالقصور المصرية القديمة، وفي كل غرفة نافورة، ويصعد إلى محل الجلوس بثلاث درجات، وهذه دار الرجال، أما دار الحريم فبعيدة عن هذه مستقلة وحدها بحديقتها وأبوابها.
وجلسنا في إحدى غرف الاستقبال، ثم بدأت وفود المهنئين بقفاطينهم الحريرية المضربيات ذوات الألوان الزاهية، وتلك ملابسهم في الصيف. وكان أبو خليل قد قدمني إلى أفراد أسرته الكبيرة الذين استقبلونا خير استقبال، منذ مقدمنا، واحتفوا بنا. جلسنا جميعاً في تلك الغرفة ثم قدم إلينا أول زائر فنهض القوم جميعاً ونهضت معهم وأنا أترقب ما يفعلون، فأصل إلى عوائدهم في استقبال الضيوف، ورأيتهم حين يقفون في استقبال الضيف يضعون أيديهم على صدورهم بخشوع واحترام، ويتقدم الضيف فيصعد الدرجات الثلاث ثم يخلع نعليه، ثم بدلاً من أن يجلس، يركع، ويركع الحاضرون كذلك، وتمرّ لحظة قصيرة، ويقول الزائر – السلامة لكل فرد سيدي.
وهنا يسأله صاحب البيت: تؤمر سيدي؟ فيجيبه الضيف تفضل سيدي. وبهذا يكون قد أذن لنا بالجلوس، ولكن يأبى عليهم أدبهم الجلوس تماماً فينزلون إحدى ساقيهم ويبقون الأخرى ونظل بهذه الجلسة الغريبة الشاقة حتى يأتي ضيف جديد، وهنا تبدأ مسألة الجلوس والوقوف من جديد، وهكذا ظللنا على هذه الحال، وبين هذه الحركات، فإذا جلسنا فإنما نريح ساقاً واحدة مرة اليمين، ومرة اليسار إلى أن انتهى سيل الضيوف، وقد قدمت لنا الأرجيلة، وفي هذا المنزل، بل وفي كل بيوت أهل هذه البلاد، ولا أحسب أن في البيت أقل من أربعين.
مائدة الحلويات، وهي مكدسة بأصنافها، وعلينا أن نتناول من كل صنف.. لا رحمة ولا شفقة
أما حديث هؤلاء الأضياف، فكان يدور عني ومن أكون، وحين يقدمني لهم كانوا يبالغون بالترحيب بي. وقد لاقيت في الرحلة عجباً من كرم هؤلاء القوم حيناً، ومما لاقيناه أحياناً مما سأدع وصفه إلى القريب.
اتفضل سيدي!
أخيراً، بعد أن كاد يفرغ صبري، وبعد أن كاد يُقضى عليّ من التعب ومشقة القيام والسجود والجلوس. أخيراً دعينا إلى العشاء، وقلت في نفسي الحمد الله لقد انتهى دور الرسميات وآن لي أن أستريح قليلاً فترة تناول الطعام، ولم يمرّ ببالي ما كان ينتظرني من رسميات أخرى لم تكن في حسابي..
قمنا جميعاً وتأهبنا للذهاب إلى قاعة الطعام، وقبل أن ننزل درجات السلم الثلاث، رأيت حركة وقوف من الجميع فوقفت. ماذا؟ دعوة جديدة للنزول وما من أحد يريد أن يتقدم على غيره في النزول، ومرت ربع ساعة بين اتفضل سيدي! اتفضل حضرتك.. لا والله.. ما بيصير والله! وكادت تنشب معركة ذوقية لا أدري كيف انتهت، لأني شعرت بدوار من العذاب. وأخيراً سرنا خطوات قليلة حتى وصلنا باب الصالة و.. وقوف عن المسير مرة أخرى.. ربع ساعة أخرى من الذي يجتاز الباب أولاً.
وخُيِّل لي أن أصيح في هذا الجمع أو أن أدفعهم بيدي دفعاً. ويتحرك الموكب مرة أخرى حتى المائدة، ووقفة أخرى على المائدة سببها من يجلس أولاً: اتفضل سيدي، والله ما بيصير، حتى هداهم الله، وربما رحمة بي فقد كدت أبكي من الغيظ والتعب. وكان الجوع يكاد يقضي عليّ، فما إن جلست واطمأننت أني سأشبع جوعي حتى وجدت أن دعوة أخرى في انتظاري وأن ربع ساعة أخرى لا بد من مرورها قبل الطعام، إذ كل واحد يدعو الآخر أن يمد يده أولاً. وأكلنا.. وأكلنا.. ويجب أن تعرف أولاً من قلة الذوق أن ترفض صنفاً أو أن تشبع قبل غيرك.. وظللنا نأكل ونأكل حتى كادت تخنقني التخمة، ولكن الله سلم، وقمنا بخير ولا أحد يستطيع المسير من كثرة الطعام. وقال صاحب الدار: اتفضلوا من هنا! إلى أين؟ هل تعرف أيها القارئ إلى أين؟ أو هل تصدق أنا دعينا إلى مائدة أخرى!! نعم مائدة الحلويات، وهي مكدسة بأصنافها، وعلينا أن نتناول من كل صنف.. لا رحمة ولا شفقة. وكانت متاعب اليوم ومتاعب القيام والسجود، ومتاعب الدعوات، وأخيراً متاعب الطعام. كل هذه أخذت مني كل مأخذ، وما رأيت القوم يمضون إلى صلاة العشاء حتى انسللت خلسة، "ولا مؤاخذة"، وذهبت إلى غرفتي. وهناك نمت نوماً عميقاً.
أسبوع ولائم
استغرقت في نوم هادئ مستمر لم أستيقظ منه إلا في ساعة متأخرة، حين طرق على بابي من دعاني للنهوض. ووجدت القوم في ثيابهم على أهبة الخروج في هذه الساعة من الصباح، وبلا إفطار، ولكني علمت أننا مدعوون على الفطور، ولعلك مثلي لم تسمع من قبل هذا بدعوة على الفطور في الصباح. وتبعت الدعوة سلسلة من الولائم بسرعة ثلاث ولائم في اليوم الواحد، واستمرت أسبوعاً كاملاً لا أدري أية كميات هائلة وفيرة من الطعام حملت معدتي حتى انتهت مدة إقامتنا.
ولا ننسى أيضاً تكرار الرسميات وعذابها في كل هذه الولائم.. على أني يجب أن أقرّ هنا، رغم كل ذلك، بما وجدته من كرم هؤلاء الناس، ذلك الكرم العربي الصميم الذي نسمع عنه في القصص والقصائد. ولا أنسى ما وجدته في هذه المدينة من تنعم أهلها وعنايتهم بالرياضة الفكرية بين الحدائق والبساتين، فعقب صلاة العصر تغلق متاجر المدينة كلها، ويخرج الأهل إلى الرياضة بين الأنهر الجارية بين الحقول والحدائق التي بسطت بمختلف الأزاهير ذات الألوان الزاهرة ومناظر الطبيعة الساحرة الأخاذة، فقد زينتها الحسان السائرات بين تلك الأزاهير اليانعة، ولكن.. احذر أيها السائر، فالويل لمن تطلع لحسناء في الطريق بنظرة خبيثة أو ابتسامة مغرية، أو كلمات بذيئة، قد ترى مثل هذا في مصر أما هنا فلا. مظاهرة وداعية! ما كادت تأذن ساعة رحيلنا حتى احتشدت الجماهير أمام الدار، جاءت تودعنا قبل المسير، وخرجنا نشق الطريق في هذا الجمع الحافل وهم يصيحون بكلمات التوديع الطيبة: مع السلامة! وجدنا في انتظارنا عربة.
ومرت العربة في شوارع المدينة والناس تحيينا على الصفين، وكانت تحفّ مركبتنا مركبات المودعين وخيلهم وحميرهم جاؤوا يوصلوننا إلى خارج المدينة. وفي خارج المدينة كانت الوفود التي استقبلتنا يوم قدومنا في الانتظار، وهناك عدنا إلى تناول الطعام برسمياته، ثم استعددنا للرحيل ووجدنا في انتظارنا عربة تجرّها أربعة جياد، نعم أربعة جياد، والغريب في أمرها أنها صُفَّت صفاً أفقياً، وقد لفت نظري هذا المنظر وتساءلت عنه، حتى علمت أن الحوذي يتاجر في الخيل، وأنه ألحق زوجاً منها إلى جوادي العربة ليبيعه. وودعنا القوم الذين كانوا يشيعوننا بدعواتهم الحارة، واتخذنا طريقنا إلى مدينة حمص، وهي مدينة أحمد أفندي توكل، رفيقنا في الرحلة. واندفعت العربة تطوي الأرض طيّاً، حتى إذا اعترضتنا أرض وعرة؛ تعثرت الجياد، فانهالت ألفاظ السباب من السائق على الطريقة السورية من حرق ولعن إلى آخر هذه القوائم الممتلئة بالشتائم. واستغرقت رحلتنا ثلاثة أيام كاملة، فكنا إذا انتصف النهار نزلنا إلى ضيعة فاسترحنا بها حتى يؤذن العصر فنعود إلى السير حتى يولي النهار، فنبيت الليلة في أول قرية نصادفها إلى الصباح، وهكذا حتى بلغنا حمص، وكان خبر مجيئنا قد انتشر بين أهلها، فما كدنا نبلغ أبوابها حتى شاهدنا الجموع قد خرجت لاستقبالنا، ودخلنا دخول الفاتحين.
من حمص إلى حلب
مدينة صغيرة تذكر زائرها بتلك الأوصاف الخيالية التي تقرأها في ألف ليلة وليلة، وتذكر بذلك العهد الخيالي البديع الذي يمثل الشرق في سحره وفتنته وأنت تمرّ في شوارعها الضيقة المتعرجة ذات السقوف التي تسدل على الشوارع ظلاماً، وتلك البوابة الكبيرة عند مدخل المدينة التي تعيد إلى سمعك عهد الخلفاء، وكأنما يخيل إليك الحراس خلف بابها الضخم وهم يعترضون عابر السبيل عند اجتيازها.. ثم نهر العاصي العظيم الذي يحد المدينة (من جهة الغرب) ويخرق الحقول والحدائق، وقد ذهبت على جانبيه السواقي والطواحين، فكنا نمضي إلى تلك الحدائق الغنّاء فنبسط البسط تحت أغصانها الدانية، كأنما نعيد عهد العباسيين على شاطئ دجلة، متكئين على البسط الممدودة، وأمام كل منا الأرجيلة، وقد صفت أمامنا صحاف الطعام من مختلف الألوان.
أما أنا، فقد أسعدتني هذه الأيام، وخصوصاً بعد أن مللت من رسميات دمشق وأيام السجود والوقوف، واتفضل سيدي والله ما بيصير، وكنت شكوت إلى رفاقي هذا الملل الذي كادت تزهق له روحي، فضحك أبو خليل ووعدني خيراً وقال: سوف تجد في حمص ديمقراطية ولهواً وتسلية ما ينسيك رسميات دمشق. ألعاب وبرَّ الأستاذ بوعده، وطرح القوم كل أثر للكلفة فيما بيننا، فما كان هناك كبير أو صغير رغم أن جمعنا ما كان يضم إلا كل عين وجيه، وتاجر عظيم، وذي مقام سام.
مدينة صغيرة تذكر زائرها بتلك الأوصاف الخيالية التي تقرأها في ألف ليلة وليلة،
رأيت أولئك جميعهم يلهون ويلعبون ويعبثون عبثاً بريئاً، ويعدون كأنهم أطفال صغار، وما أظرف ما شاهدت من ألعابهم الوطنية الخاصة. ومن دروب لعبهم أنهم كانوا يقفون في صفين أحدهما خلف الآخر فيركع أفراد الصف الأول ويبدأ الصف الثاني من خلفهم في معاكستهم معاكسات ظريفة ورشيقة، ويجتهد الصف الأول في معرفة اليد التي أصاب صاحبها من الخلف أحد الأماميين، فإذا قبض على تلك اليد انتهى الدور وحلّ الخلفيون محل الأول، وهكذا. تلك اللعبة وأمثالها لن تصل في الوصف مبلغ الحقيقة عند مشاهدتها، فكنا نقضي النهار بين ضحك ولعب وجري ولكن.. لا شراب، نعم لا شراب فليعلم القارئ أن هذا العبث كله كان بريئاً حقاً، حرمت فيه الخمرة تحريماً باتاً كأننا في أمريكا. ليالي الأنس والطرب وهكذا كان يولي النهار، أما الليل آه ما أطيب تلك الليالي وأنعمها، ليل متصل بنهاره، إذا جاء غصت الدار بأبطال الموسيقى من كل ذي صوت شجي وكل فنان ماهر، فنقضي الليل نمتع السمع بأعذب غناء، والبصر بمشاهدة مختلف أنواع رقص السماح، وهكذا قضينا سبعة أيام بين نهار كله لهو ولعب ومرح، وسبعة ليال كلها فن وطرب حتى أذن موعد الرحيل، فاعتزمنا السفر، وأمرنا العربة ذات الجياد الأربعة بالاستعداد.
الآن وقد اجتزنا النهر وتجنبنا عبور الجسر، فلا مانع يحول بيننا والسير في الطريق العمومي، فعلينا أن نصل إليه، والسبيل إليه ملؤه الصخور الناتئة والمنحدرات الوعرة، والمرتفعات، ولا قبل للعربة في السير بهذا الطريق ما لم ندفعها بأيدينا كما فعلنا عند اجتياز النهر، والمسافة بعيدة المدى فلن نبلغ الطريق العام قبل ساعتين، وشاءت الطبيعة أن تزيد ما نحن فيه من نصب وعناء فأمطرتنا السماء غزيراً.
إني أدع للقارئ أن يتصور ما نالنا من نصب ونحن نرفع العربة بكل ما فينا من قوة، والصخور تدمي أقدامنا العارية، والعربة تندفع حيناً وتعرقلها الأحجار حيناً. وأخيراً بلغنا السهل، ولكن بعد أن كدنا نهلك مما لاقيناه، فانطرحنا على الأرض كأننا جثث هامدة، وأدركنا الحاج محمد وعاوننا حتى دخلنا العربة، وكانت معدات الشاي فأعده لنا وقدمه بينما كنا ملتفين بالسجاجيد تاركين ملابسنا حتى يجففها الهواء، وعادت العربة إلى المسير في طريق ممهد حتى بلغنا مدينة حماة وعلى أبوابها وقف الحاج محمد مودعاً، وعبثاً حاولنا دعوته إلى المبيت، إلا أنه أجابنا بأن ذلك فوق استطاعته لأن أعين الحكومة له بالمرصاد، وهو الذي خرج عليها وحارب شرطتها في عدة وقائع، وأن ما يحمله من سلاح فهو مما اغتصبه من رجال الحكومة.
رائحة لذيذة في حماة! نزلنا ضيوفاً عند التاجر عميل أحمد أفندي توكل الذي كان في انتظار الأربعمائة جنيه يسلمها له توكل أفندي، ومن أجلها كان خوفنا شديداً من قطّاع الطرق لولا حماية الحاج محمد، وبينما نحن في انتظار الطعام أحسست عبيراً يملأ الجو... عبيراً لم استنشقه من زمن بعيد في هذا الجو الصالح الورع، وأخيراً عبير العرق.
عرق الزبيب اللذيذ!
ولاحظ صاحب الدار ما بدا علي من نشوة ومن حنين إلى هذا الخمر، فأشار إليّ خفية أن أتبعه، وفي غرفة منفردة بعيدة عن أهل الصلاح والتقوى وجدت زجاجة وكأساً تركني لهما المضيف أداعبهما ما شئت أن أداعب. وشربت وشربت حتى نسيت متاعب النهار ومشاق الطريق. حلب لم تطل الإقامة في حماة غير ليلة، وفي الصباح اتخذنا الطريق إلى حلب... مدينة الملاهي، وقد بلغناها بعد سير يومين، فكان وصولنا إليها ليلاً، فإذا نحن في مدينة ساهرة، مدينة الملاهي والطرب والرقص والغناء، شوارع صفت على جانبيها المقاهي، وقد غصت بالجالسين، وفيها المطربون يشنفون الأسماع، والراقصات تمتع الأبصار، والموسيقى تصدح في كل مكان.
مدينة حلب، المدينة الساهرة بين الغناء والرقص والموسيقى، فإذا انقضى الليل وجاء الصباح استيقظ الناس وهرعوا إلى المقاهي، فإذا الموسيقى تصدح في كل مكان، إذا الغناء والطرب والرقص.. فهذه المدينة الدائمة التي لا تنقطع، طرب في الصباح حتى ينتصف النهار، وهذه هي الصبحية، كما يدعونها، فإذا جاء العصر عادت الملاهي إلى عهدها إلى ما بعد الغروب، ويدعون هذه الحفلات العصرونية، ثم تبدأ السهرة بعد ذلك إلى ما بعد منتصف الليل. هذه مدينة الفن التي ترى الطرب يسبقك أينما حللت، حتى في البيوت تقام الولائم يتخللها الطرب والغناء.
قوم شغفوا بالفن، فتملك عليهم وملك مشاعرهم. أسمعت أيها القارئ عن قصص ألف ليلة وليلة، كل بيت من بيوت هذه المدينة قصر من قصور ألف ليلة وليلة. قضينا في هذه المدينة بضع ليال لن أنساها ما حييت، فمتعت السمع بأجمل ما سمعت من تواشيح، وبشارف تركية يعزفها رجال من خير رجال الفن، ولا أنسى حلقات الرقص السوري البديع التي تضم الحلقة منها ما لا يقل عن أربعين رجلاً بين شاب في العشرين وشيب في السبعين، والكل نشط متحفز وهم ينشدون أناشيد رقص الدبكة.