وبحسب الباحث في العلاقات الدولية، والبرلماني العراقي السابق، "عمر عبد الستار محمود"، الذي نحاوره في هذه النافذة، فإنه وفي خلال تلك الفترة الزمنية شهد العراق معركتين: محلية، وأخرى دولية.
محليا: معركة بين اللادولة والدولة، "وهذه تحتاج معركة لإعادة الدولة ومحاكمة المالكي عن الفترة 2006 - 2014 أمام قضاء مستقل".
ودوليا: معركة بين وصاية أميركية وإيرانية، "وهذه تحتاج معركة لرفع يد إيران وإجراء مصالحة وطنية برعاية عربية ودولية".
*حدثنا عن مسار الأحداث التي مرت بالعراق بعد الغزو الأميركي له عام 2003؟
انتقل العراق بعد الحرب العالمية الأولى من حكم الدولة العثمانية، وحينها كان العراق ثلاث ولايات، نينوى وبغداد والبصرة، إلى نظام الدولة - الأمة القومي الوطني الملكي تحت رعاية التاج البريطاني حتى انقلاب 1958 حيث انتقل إلى حكم جمهوري سقط في 2003.
ويبدو أن مسار الأحداث التي مرت بالعراق بعد الغزو الأميركي له، عام 2003، والتي تتلخص بنزاع محلي إقليمي دولي، حول طبيعة وشكل ودور عراق ما بعد 2003، ربما تعود به مرة أخرى إلى حكم ملكي غادره منذ 1958، وبثلاث ولايات أيضا وكأن التاريخ يعيد نفسه، خصوصا بعد أن نقضت أحداث عام ما بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، الانظمة القومية العربية، وبرزت دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية في 2015 كبديل عربي عن دول سايكس بيكو القومية.
*هل تتوقع إعادة بناء العراق، ومعه دول سايكس بيكو العربية، كما أعيد بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؟
قضى العراق مرحلته الجمهورية حليفا للاتحاد السوفييتي، والتي استمرت بعد انهيارها في 1989، ثم انتهت باحتلال العراق في 2003، الذي سبقته هجمات 11سبتمبر/ أيلول 2001.
هجمات 11سبتمبر/ أيلول2001 التي نقضت أبراج نيويورك ومبنى البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) فتحت المجال واسعاً لنقض منظومة سايكس بيكو العربية، ربما كما نُقضت أوروبا في الحرب العالمية الثانية قبل أن يعاد بناؤها بعد ذلك.
وقد أصبح هذا النقض في دول سايكس بيكو العربية واضحا بعد 14 من السنين العجاف.
فهل سيعاد بناء العراق ومعه دول سايكس بيكو العربية كما أعيد بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لتكون الحجر الثاني في منظومة النظام الدولي الجديد بعد الاتحاد الأوروبي؟
ربما وهذا ما أشار إليه مؤتمر معهد بيروت العالمي الذي انعقد في أبوظبي قبل أيام.
*ماذا شكل الاحتلال الأميركي للعراق في المنطقة؟
لقد شكل احتلال العراق في 2003 فراغا جيوسياسيا كبيرا على حدوده مع إيران وتركيا وعلى حدود إيران والسعودية، وبغياب العرب عن العراق بعد 2003 وبرفض تركيا للاحتلال الأميركي بقرار 1 مارس/آذار 2003، استطاعت إيران بنظام ولاية اللادولة الذي هيمن على إيران بعد 1979، أن تكون وصيَّة على عمليته السياسية ومؤسساته الأمنية والمدنية، ومنعت عودة الدولة إليه وتغولت منظومة اللادولة فيه سواء؛ عبر عوامل "فوق وطنية" كالقاعدة وتنظيم الدولة "داعش" أو "دون وطنية" متمثلة بكل أنواع المليشيات الطائفية المنتشرة في العراق.
*في ظل هذا المشهد.. ما هو الدور التركي الإيراني في العراق؟
الاستثناء الوحيد الجيد بعد 2003، وما زال، أن تركيا وحزب العدالة والتنمية الحاكم، اللذين رفضا الاحتلال الأميركي، استطاعا تحقيق أمرين أساسيين: أولهما، أن تساوم إيران وتبني من خلال ذلك نموذج مساومة تركياً إيرانياً، حفاظا على أمنها القومي.
وكذلك تقاربت تركيا مع كرد العراق، وجعلت من إقليم كردستان نموذجاً أقرب إلى نموذجها، مثلما جعلت إيران ولاية الفقيه من بغداد نموذجاً أقرب لسياستها في المنطقة. وهكذا أصبح العراق منذ 2003 وما زال متمثلا بنموذج أربيل القريب من تركيا، ونموذج بغداد القريب إلى إيران.
أما سنّة العراق العرب، فقد دفعوا الثمن الباهظ، إذ وجدوا أنفسهم بلا منظومة تنتظمهم، ولا دولة تحتضنهم، فتاهوا وانقسموا وتنازعوا، مثلما تنازعت وانقسمت الأجندات الدولية والإقليمية على شكل وطبيعة ودور العراق الجديد. وفي ظل هذا التنازع المحلي والإقليمي والدولي على طبيعة وشكل ودور العراق الجديد بعد 2003 مر العراق حتى الآن بثلاث مراحل: مرحلة 2003 - 2006، والثانية 2006 - 2014، والثالثة 2014 وحتى الآن.
*حدثنا عن هذه المراحل الثلاث، ولديَّ في كل مرحلة منها، وقفة وتساؤل عن أبرز أحداثها: بين "التخادم" أو التصادم الإيراني الأميركي، في العراق، أين وقع البلد بين عامي 2003-2006؟
مرحلة 2003-2006، هي مرحلة التيه والتيه المضاد، سُبقت بهجمات نيويورك، في 11سبتمبر/ 2001، ثم تم احتلال العراق، وغابت عنه الدولة، ثم غاب عنه الدور العربي، واستولت إيران على عمليته السياسية، عبر حلفائها المحليين في منظومة اللادولة، ونُقضت دولته وكُتب دستوره على عجل، وانتخب أول برلمان له، وانقسم سنّته، وتشكَّل بيته الشيعي، وقام إقليم كردستان، ورفضت بغداد مشروع المصالحة الوطنية برعاية الجامعة العربية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2005.
جدير بالذكر أن نقول إن أميركا احتلت العراق، ليكون نموذجها في نقض وبناء الشرق الأوسط الجديد، فهل وصاية إيران بوجود أميركا كان "تخادماً" بين الطرفين، وكانت المرحلة الأولى من هذا المشروع إيرانية، متمثلة بنقض العراق: دولة، وجيشاً، ونظاماً؟ أم أن ذلك كان تصادما؟ سؤال نترك إجابته للمستقبل، وربما نلقي عليه بعض الضوء في نهاية الحديث.
ولكن بين التخادم أو التصادم الإيراني الأميركي، وقع العراق في التيه والتيه المضاد المتمثل في الإجابة عن سؤال: ماذا يجري، وإلى أين يتجه العراق؟ في تنازع الأطراف الدولية والإقليمية، على نموذج عراق 2003 وفي ظل مخاوف السنة والشيعة والكرد، من ماض أو حاضر أو مستقبل.
وإذ تركت أميركا العراق لإيران وانسحبت منه، لم تترك إيران العراق إلا فوضى بلا دولة، واذ ترك العرب السنّة العراق للشيعة والكرد منذ 2003 وتاهوا، لم يجد الشيعة والكرد المستقبل الذي ينشدون، بل وجدوا أن المخاوف زادت بتيه العرب السنّة ولم تقِل.
*في ظل هذا "التيه والتيه المضاد" المستمر.. أين منظومة الدولة العراقية؟
مثلما بدأت فترة 2003 - 2006 بهجمات نيويورك التي افتتحت مرحلة التيه والتيه المضاد، فإن فترة 2006 - 2014 بدأت بهجمات وتفجيرات سامراء في 22 يونيو/ حزيران 2006، والتي فتحت المرحلة السوداء الثانية في تاريخ العراق بعد 2003، بغياب منظومة الدولة لصالح اللادولة، التابعة لإيران، وسقطت كل محافظات العراق العربية السنية بيد تنظيم القاعدة، آنذاك، ليستمر العراق في غيبوبة التيه والتيه المضاد. ورغم أن العرب السنّة، طردوا القاعدة، لكن تزعُّم المالكي للعراق، في هذه الفترة لولايتين، جعل من التيه والتيه المضاد في العراق حالة مستعصية.
*ما الذي فعله المالكي خلال فترة 8 سنوات من حكم العراق؟
لقد ابتدأ نوري المالكي عهده، بإعدام صدام حسين، في يوم أضحى بصورة خارجة عن القانون والدستور العراقي، واستحق في ثماني سنوات من حكمه لقب الزعيم الفرد والحاكم المطلق؛ فقد سوَّف كل الاتفاقات السياسية مع شركائه السياسيين، سواء كانوا كردا، أو عرباً سنة، وأنهى التحالف الشيعي الكردي، وركل الدستور جانبا، وتغوَّل على كل سلطات العملية السياسية ومؤسساتها والدستور، باسم مكافحة الإرهاب لصالح مليشيات خارجة عن القانون، وأهدر مئات مليارات الدولارات، واعتقل مئات آلاف العرب السنة في سجون تابعة لمكتبه، فضلا عن سجون الداخلية والدفاع والعدل، واستهدف أغلب رموز العرب السنّة داخل العملية السياسية، وللمفارقة فعل كل ذلك تحت لافتة ائتلاف دولة القانون.
انتهت فترة حكم المالكي، أخيرا، بضرب حراك المحافظات العربية السنية، ثم استهداف محافظات السنة وجمهورها بأن سلَّمها، من نينوى، إلى صلاح الدين، إلى الأنبار، الواحدة تلو الأخرى لتنظيم الدولة "داعش" في يونيو/حزيران 2014، بعد أن أخرج عناصرها، من السجون في عمل مسرحي مفضوح، كشفه حسن الشمري وزير العدل في حكومة المالكي نفسه، وسقطت فرق الجيش التي بُنيت بعد 2003 - 2014 الواحدة بعد الأخرى، وكأنها قطع دومينو.
*ماذا عن مرحلة ما بعد المالكي؟
ابتدأت هذه المرحلة، كما ابتدأت أخواتها سابقا شبرا بشبر. فمثلما بدأت المرحلة الأولى بأحداث نيويورك في 2001، والثانية بأحداث سامراء في 2006، بدأت هذه المرحلة بأحداث نينوى وسقوطها بيد داعش في 9 يونيو/حزيران 2014. ثم أطيح بالمالكي من رئاسة الوزراء واستلم العبادي الحكم في أغسطس/آب 2014، ببرنامج إصلاح لا يقل من ناحية المضمون، عن برنامج حكومتي المالكي في ولايتيه، والتي لم ينفذ منها بندا واحدا، بل فعل المالكي عكس ذلك تماما.
تشكلت حكومة العبادي، إثر تشكيل تحالف دولي ستيني، إثر سقوط نينوى، مماثل لتحالف 2003 الذي صاحب غزو العراق. وتم تشكيل الحشد الشعبي بزعامة هادي العامري وأبو مهدي المهندس، وضم الحشد كل مليشيات إيران في العراق، تحت زعم محاربة تنظيم الدولة "داعش".
*ماذا شهد العراق في الأيام الأولى من حكم "العبادي"؟
شهد العام الأول، من حكومة العبادي، شداً وجذباً بين التحالف الدولي برعاية أميركا، والحشد الشعبي برعاية إيران، لكن يد إيران ربما فترت، او ارتبكت بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني في 14يوليو/تموز 2015 في لوزان. وقد سبق الاتفاق النووي، ظهور تحالف الحزم العربي في مارس/آذار 2015، وتقاربه مع تركيا وهبوط أسعار النفط في يونيو/حزيران 2014 وهي عوامل جيوسياسية فتّت في عضد إيران لأول مرة منذ 2003.
وربما أدى هذا الفتور الإيراني، إلى بداية حراك شيعي واسع شمل أغلب محافظات الجنوب وبغداد، مطالبا بمحاكمة المالكي، وإصلاح العملية السياسية. وصدر إثرها تقرير برلماني عراقي يحمل المالكي مسؤولية سقوط نينوى، ما سهل على العبادي الإطاحة بالمالكي من منصبه في رئاسة الحكومة. والبدء بحزمة إصلاحات، كان آخرها تعيين عماد الخرسان، أمينا عاما لمجلس الوزراء خلفا لمهدي العلاق.
*في ظل هذا المشهد: إلى أين يتجه العراق؟
في ظل الصعود العربي، والارتباك الإيراني، والعودة الأميركية، خصوصا بعد تدخل روسيا في سورية، وتشكيل غرفة استخبارية رباعية في بغداد تشمل روسيا وإيران وسورية والعراق. ربما يجد العراق نفسه ولو بعد حين، دولة تدور في فلك مجلس التعاون الخليجي، بعد أن عاش منذ 2003 في ظل منظومة اللادولة الإيرانية.
التدخل الروسي الأخير لن يطول، إلا إذا أراد الرئيس فلاديمير بوتين أن ينتحر، كما تدل على ذلك أغلب المؤشرات، هو اتفاق دولي يضع ملف إيران الإقليمي، تحت رعاية المجتمع الدولي ويعود بروسيا للمجتمع الدولي، بعد عزلة مثلما وضع اتفاق لوزان ملف إيران النووي تحت رعاية المجتمع الدولي، وهو يعود بها كما يبدو إلى الاندماج في المجتمع الدولي بعد عزلتها.
وإن حصل وانتقلت إيران، من الثورة إلى الدولة، وتخلت عن منظومة اللادولة، فإن المنطقة تتجه والعراق معها، إلى منظومة أمن وتعاون دوليين، حجر أساسها مجلس التعاون الخليجي، ضمن مبادرة إسطنبول برعاية الناتو في بضع سنين.
وأخيرا، وفي ضوء هذه الفاصلة التاريخية التي مرت بالعراق والمنطقة، ونقضت النظم الجمهورية العربية القومية، ونهضت النظم الملكية العربية بقيادة المملكة العربية السعودية، يبدو أن العراق بعد أن فترت يد إيران أو ارتبكت إقليميا، يتجه نحو مصالحة وطنية عراقية، برعاية عربية ودولية، إن تمت، فإن العراق ستعود له الدولة، وتغيب عنه منظومة اللادولة، بفرعيها "الفوق والتحت وطنية"، وينتظم شمل العراق بنظام اتحادي فيدرالي، غير مركزي وأقاليم جغرافية ثلاثة، أو أكثر وستكون جغرافية ربما أكثر مما هي طائفية، خصوصا في ضوء الخلاف الشيعي والكردي الكردي، والسنّي السنّي.
(العراق)