حضرت لوحات عمران يونس من دمشق، ولم يحضر صاحبها. التأشيرة الفرنسية لم "تمنح" للفنان السوري. في "غاليري أوروبيا" حيث تعرض اللوحات، ترك يونس أعماله بلا عناوين، ربما لا حاجة لعنونة الموت، أنت ببساطة أمام المقتلة السورية.
أو ربما يكون الأمر كله في سؤال يونس نفسه، في نصه المرافق للمعرض: "من أنت أيها الموت؟". كيف يمكن أن تكون سورياً وحاضراً إلى هذه الدرجة، وتظل غامضاً ومجهولاً بالنسبة لنا؟
اللوحات قبور مفتوحة أمام المتفرّج، في إحداها يظهر صندوق يعلوه كلبان ينظران باتجاه واحد وينبحان، يسهران كحارسين على الميت. داخل الصندوق/القبر/المهد يتموضع جسد طفل صغير مادّاً يديه ورافعاً ساقيه في حركة لعبية. هل هو مدفون في اللوحة كما قتل تماماً؟ أم أن الفنان عثر عليه في مخيلته ميتاً يلعب؟ على الجمجمة لطخة فسفورية تضيء الأسود الرصاصي الذي يحتل اللوحة. آثار الرصاص تخترق سطح الورق، تحاكي التجاويف التي يتركها القنص على الجدران.
حين تقترب من العمل، تلمح أثر الضغط بقلم الرصاص على الورق. تتخيل حالة يونس وهو يرسم وكأنه يدق بإزميل وينحت شبكات من الخطوط تتشكل لتصير عناصر اللوحة.
يصف يونس طريقة عمله "طاقة الخط واللحظة بين الحياه والموت، إنه سؤال أحاول الإجابة عليه". ويضيف "كيف يمكن لهذه الخطوط المتدرجة من الأبيض والأسود ألا تكون ميكانيكية؟... هي التي تتداخل مع روحك وتنفخ في أشكالك ومساحاتك الروح وترصد الحركة الداخلية للشكل وتعمل عليها بحيث تكون الخطوط والأشكال نابضة بالحياة".
نابضة بالحياة؟ ياللمفارقة! يريد يونس أن يرسم شيئاً نابضاً بالحياة عن الموت. كيف لا وقد تحول الموت إلى كائن يعيش معه ويطارده حتى في مناماته. "لحظة الموت مرعبة إنها تتحول إلى كوابيس حتّى في أحلامي" يبيّن يونس.
منذ أكثر من ثلاثة أعوام أصبح الموت موضوعاً لأعمال الفنانين السوريين. والموت محرّض كبير للمخيلة على امتداد تاريخ الفن، وكذلك هي الحرب. يذكرنا الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري بـ"كم من مشاهد الحروب، الجرائم، الصلب، القتل، الاغتصاب، الانتحار، الشنق، التعذيب. كم من دماء مسكوبة ورؤوس مقطوعة معلقة على جدران المتاحف. من جدران كهوف اللاسكو الى لوحات الحروب الكلاسيكية مروراً بالأعمال المزينة بسير شهداء المسيحية".
تحمل هذه المجموعة، التي يستمر عرضها حتى 27 حزيران/ يونيو الحالي، قيمة توثيقية. فيونس أحد التشكيليين السوريين القلائل الذين لم يغادروا دمشق، وشاهد عيان على الحياة المعنّفة والمضرّجة يومياً. ونحن نتأمل أعماله في باريس 2014، لا نستطيع إلا أن نستحضر "مآسي الحرب" للفنان غويا المرسومة في 1810. اللوحات شهادات مستمرة.. والفنان شاهد لا يموت.