مع الوقت، تأخذ المدن صفات تصبح لصيقة بها. نقول مدناً؛ صناعية أو خضراء أو ذكية أو فقيرة، والآن يفكّر المعماريون في الغرب في أن بعض مدن المستقبل ستحمل صفة "مدن المعلومات" بامتياز.
تحتار أية صفة تطلق على مدينة مثل بيروت أو عمّان، إنها ليست مدناً فقيرة تماماً، فالأحياء البرجوازية فيها وأبراجها المتزايدة وطاقة الاستهلاك لدى الناس ليست أدوات تمكنك من إطلاق صفة عن مدن تتهرّب من هوياتها المعمارية، ومن الواضح ألا خطة لمستقبلها المعماري في رأس أحد. هل ثمة خطة؟
في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، تحوّل "العمران" إلى قضية أساسية تدق نواقيس الخطر، فالإحصائيات تقول إن 2 بليون إنسان في العقدين القادمين سيحتاجون إلى أماكن جديدة لكي يعيشوا ويعملوا في المدينة.
لذا فإن هذه القضية صارت لها أولوية على أجندة الجامعات والحكومات في بلدان مختلفة. مع الأسف، أيّ من بلادنا ليست واحدة من بينها.
لنأخذ سنغافورة على سبيل المثال، حيث أصبح موضوع مستقبل وإمكانيات المدن قضية وطنية ذات أولوية، إذ يُعتبر عمران البلاد المُسرعة في نموّها السكاني من هموم الحكومة التي كرّست لها مركزاً خاصاً لدراسة وتخيل مدن المستقبل، وهو ليس بالمستقبل البعيد.
إننا نتحدث عن تحوّل خطر خلال عشرين عاماً فقط من الآن. دراسات أوروبية وآسيوية وأميركية لسنا شركاء فيها، هي أشبه بمختبر يبحث عن وسائل واقعية وتقنيات ومنهجيات تترجم مفهوم التنمية العمرانية المستدامة، وتدمج جهود المعماريين بعلم السكان بمفاهيم إدارة المدن، وصولاً إلى جهد البنائين أنفسهم.
إنها محاولة علمية تختبر السيناريوهات المتوقعة، إذ أن الفروقات في مدن المستقبل ستكون شاسعة بين جنوب العالم وشماله بشكل لا يمكن تجاهله، فبينما بدأت الدول الأوروبية تفكر في كيفية التخطيط لمدنها في ضوء التغيرات المناخية والاقتصادية، لا بد أن تتدارك مدن ما يسمى "العالم الثالث" هذا التفجر السكاني الآتي، في مناطق مهددة دائماً بالكوارث الإنسانية والتضخم والفقر والحروب والنزاعات.
وفي شأن التخطيط لمدن المستقبل، نشأت علوم جديدة في المعمار، لم تلتفت إليها مراكز الدراسات والجامعات العربية بعد، وربما يكون من أهمها "عمارة المعلومات"، المصطلح الذي كان أول من استخدمه المعماري الأميركي ريتشارد سول فيرمان في 2003. وإن كان الفنان الياباني تاكاشي أوزاوا قد سبقه في التصوّر سنة 1996، في معرض حمل عنوان "أركيولوجيا مدن المستقبل"، والذي قدّم فيه البيانات كما لو كانت مادة خام ستدخل في العمران.
بتعبير فيرمان، فإن "عمارة المعلومات" مصطلح من عدة طبقات، من بينها أنه يفكر كيف يحوّل البيانات المتوفرة وغير المرئية إلى مرئية، مثل علاقة البناء بالحرارة وتقلبات المناخ أو الكوارث الطبيعية. في الحقيقة، إن تحويل غير المرئي إلى مرئي عن طريق البيانات، ضروري جداً لبناء مدن جديدة ولفهم العلاقة بين مكونات المدينة وسكانها.
من جهة أخرى، تأخذ "عمارة المعلومات" المجاز المعماري لتحصل على كمية كبيرة من البيانات التي أنتجها المجتمع الحديث. هنا يمكن التفكير بما يُسمّى بالـ "التعهيد الجماعي" (تعبير ظهر في مطلع الألفية الثالثة) أي الاستعانة بالجمهور بغية الحصول على معلومات (ويكيبيديا نموذجاً). وهذا يفيد أيضاً في استمزاج سكان المدن وتوقعاتهم وفهم أفضل للبنية التحتية المناسبة.
لم يكتف فيرمان بإطلاق مصطلح "عمارة المعلومات" بل وضع مع معماريَين آخرين هما جون كامن وجاك دانغرموند مقياساً يمكن لأي معماري مهتم برصد ما ينتظر مدينته من مستقبل أن يُدخل خرائط وبيانات المدينة، ويقيس من خلاله التحوّلات الحادثة والممكنة. كما يمكن من خلال هذا المقياس، غير المسبوق، عقد المقارنات بين المدن المختلفة والبحث عن حلول عمرانية لم تكن مطروقة من قبل، وذلك بالربط بين معلومات المدن المختلفة ومشاكلها ومصائرها واستنباط ما يفيد في وضع خططها.
قد يبدو الأمر مثالياً وخيالياً، لكن خطط اليوم هذه قد تكون وثائق تاريخية، بل وربما أركيولوجية في المستقبل.
يفكر العالم الصناعي الأول ببناء مدن جديدة، بينما تقع مدن قديمة في الشرق وتتلاشى نتيجة الحروب أو حتى توسّع المشاريع التي تأخذ من المدينة جزءاً مهمّاً من تاريخها وتحوّلها إلى مسخ.
الأمر أن مشاريع الإعمار أو إعادته في البلاد العربية، ومن بينها إعادة إعمار بيروت أو تلك المدن الجديدة المصمتة على حدود القاهرة، هي مشاريع هدفها الأساسي لم يكن وطنياً بالدرجة الأولى، بل "بزنسياً"، لم يؤخذ في عين الاعتبار لدى تخطيطها حل أزمات المدن على صعيد الإسكان والترهل والبنية التحتية، بل والتاريخ الجمالي والثقافي للمكان، بقدر ما خاطب طبقة معينة تبدأ من المتوسطة وتصعد باتجاه أثرياء الخليج وتسعى إلى اجتذابهم بأي طريقة.
الأمر أن رجال الأعمال الذين نفّذوا هكذا مشاريع لم يضعوا في اعتبارهم بنية المدن نفسها وما يمكن توقعه من مدينة جديدة تناسب مواطن هذا العالم المتعثر في ظلّه دائماً.