عماد أبو صالح.. يذم الشعر ويتحدث بلسان أبطال الثورة

28 مايو 2015
+ الخط -
هل كان عماد أبو صالح (الصورة) نائما عندما قامت الثورة في مصر، كما يقول عنوان ديوانه الجديد؟ أم أنه يسائلها من داخلها! يطرح أسئلة الحرية والمشردين والأبطال، ويشرّح إحباطات الثوار وقلقهم.

لكن أبوصالح لا يسائل الثورة فحسب، بل هل يعيد هندسة العالم بأكمله.. بعقل وقلب شاعر، وكيف لا وهو "مهندس العالم" كما سمى ديوانه السادس الذي أصدره عام 2002.

ديوان عماد أبوصالح الجديد "كان نائما حين قامت الثورة" (ربيع 2015) ليس كتابا شعريا عاديا، فهو النموذج الأقوى للتمرد الشعري، تمرد على النماذج المستقرة، تمرد على العروض؛ تمرد على منظومة النشر والتوزيع، تمرد على الشعر ذاته.

نشر أبوصالح كتابه العاشر، بعد مسيرة مع النشر بدأت منتصف التسعينات، على نفقته في طبعة خاصة، يوزعها على أصدقاء منتقين، لم يركض وراء دور النشر ولم يسجل الكتاب في دار الكتب المصرية، ولم يسعَ إلى وضعه في فاترينات المكتبات، فقط يكتب ليقرأه الخاصة من الأصدقاء.

هل يفعل ذلك تقديسا للشعر، ربما.. ولكنه يذم الشعر أيضا في ديوانه، لديه قصيدة بهذا الاسم بالتحديد "ذم الشعر"، يدور بينه وبين شخص مُتخيَّل حوارٌ حول الشعر، منه:

"- أنت شاعر؟

- كنت.

- تركته؟

- أغواني وهجرني.

- لماذا تجلس في الحديقة؟

- لأنصح الأطفال.

- ماذا تقول لهم؟

احذروه..

يتخفى –أحيانا- في الحلوى.

- وللشعراء الجدد؟

- أمامكم فرصة للهرب..

سيحوّلكم إلى كلاب..

تلهثون وراء خطواته..

اكتبوا روايات".

ويتنقل أبوصالح في ديوانه بين تقنيات الشعر المعنوية والتصويرية واللفظية، وليس الموسيقية، عبر العصور، ففي المقطع السابق، على سبيل المثال، يستخدم تقنية الصديق المتخيل التي عرفت لأول مرة في الشعر العربي قبل الإسلام (الشعر الجاهلي)، وفي مواطن أخرى يستخدم الجناس، ويغلب على قصائده الإشارة للمدح والذم، ما يذكرنا بالمدحيات والهجائيات التي اشتهر بها الشعر الأموي.

لكن عماد أبوصالح يعيد اكتشاف الأشياء كذلك، فهو يمدح ويذم قيماً يكاد يكون أول من يكتشفها، فمثلا يقول في قصيدته "ذم الأشجار":

"كل شجرة شجار

لا تفلح الطيور

التي تعزف لها كل صباح

في مصالحة أغصانها مع نفسها

كل شجرة معركة، حرب خضراء

ما هي العصا؟

غصن شجرة

ما طاولة التعذيب؟

جذع شجرة

ما الصليب.. ما الباب الذي يحجب الهواء، ما هو النعش؟

دلوني على شجرة، ليس فيها فرع جاهز لتعليق حبل

كل شجرة إغراء بمشنقة".

هكذا يعيد أبو صالح في القصيدة رواية حكاية الأشجار، يعيد بناء عالمها، يراها بعدسات أخرى غير التي نحملها في أعيننا، يفعل ذلك مع الأشياء المادية والمعنوية، هكذا يمدح العدم والفراغ والظلام ويذم الحب والأشجار والشعر.

تبدو قصائد عماد أبوصالح ذروة الشعر المضاد، فهو لا يغني للزهور والجمال الكلاسيكي بل يغني لهؤلاء المقهورين والمهمشين، للمتسولين والمشردين، وحتى وسط النباتات يتذكر أكثرها ابتعادا عن الذوق البرجوازي، فيقول:

"أحضن بصلة بحنان

بين كفي أقربها من فمي وأكلمها:

يا حرة نفسك

يا أجمل من وردة

ثوبك البني الفقير

ينقذك من العرض

مقطوعة الرقبة،

في الفاترينات

من رميك وسط الجثث

في المقابر

من أن ترسمي ابتسامة

على شفاه المرضى

وتلفظي آخر أنفاسك

في جلوكوز المزهريات

من شهادة الزور

على قصص الحب

بين عشاق كاذبين

أنت لست مجرد ثمرة

يا أختي

أنت قديسة عائلة الخضروات

من يذبحك

تمتلئ عيناه بالدموع

الناس لا يطيقون رائحتك

لأنها كريهة كالحقيقة".

عماد أبو صالح يتكلم/ يكتب في ديوانه كحكيم عجوز، لا يعيد اكتشاف الأشياء فقط، بل ويستخرج من التجربة قيمتها، إنه من يقول في "مديح الخطأ": ليست الأخطاء أحجارا تعرقلنا حين نمر.. هي تعطلنا لنمشي ببطء. لنفكر بطريقة أفضل"، إنه يتفهم هؤلاء المتعثرين، بل ينحاز لهم، ويقرر "من يخطئ بريء.. من يخطئ أكثر، يصبح بريئا أكثر.. الذي لا يخطئ؛ أبيض. معقم. نظيف. لا بقعة تدل على أنه كان عائشا هنا".

وتبلغ حكمته ذروتها في ما يراه ويرويه عن الثورة، فهذا الحدث الذي عاشه عماد أبوصالح -وتحدث عنه بلسان المناضل وطفل الشوارع والديكتاتور- يظل أبرز محطات الديوان، وربما لذلك يحمل الديوان قبسا من اسم الثورة، ولكن مع حرص على الهروب من مركز الأضواء، فالشاعر المضاد لا يحب أن يكون نبي الثورة، فهو يغني لها ويدّعي أنه كان نائما حين قامت.

يتذكر أبوصالح طفل الشوارع في الثورة:

"منذ طفولته

وهو يعيش مشردا هنا

لا أهل

لا عمل

لا أمل

تقافز من الفرح

حين امتلأ الميدان بالثوار

تنازل لهم عن غطائه الممزق

ونصف سيجارة

كان يشبكها خلف أذنه

شعر أنه صاحب بيت حقيقي

يجب أن يحتفي بالضيوف

حين رحلوا فجأة

أحس بالألم

بوحدة لم يجربها في حياته".

يدخل أبو صالح كذلك داخل عقل الديكتاتور، وينبش في أفكاره ويكتبها:

"الله نفسه معي

هكذا يقول الديكتاتور

أنا أخدمه

أكتر من الشيوخ

والرهبان

والثوار

لأنه لولا الخوف

لولا الجوع

لولا الدم

ستبور الجنة

التي وعد بها

ضحايا الحياة".

يكتب عماد أبوصالح عن الثورة كما لم يكتب أحد الشعراء من قبل بلا ضجيج، وبلا تلون، لم يطرح ديوانا منذ نهاية 2010، والآن يبوح بكل ما في قلبه، يكتب عن مشاهد الثورة وشبانها، بحكمة المجرب المطلع على الماضي والمستقبل، يكتب فيقول:

"يا إلهي

كم هو رائع

هذا الشاب هناك!

يتقدم الصفوف

ويفتح صدره للرصاص

يعالج الجرحى

ويتنازل عن طعامه القليل للجباع

كأنه نبي

أنا معجب به

..

إلى كل طفل

يحلم أن يكون بطلا

تعلم منه

لتثور ضده

بنفس طريقته

حين يصبح

ديكتاتور المستقبل".

المساهمون