على مدار أكثر من ثلاثة عقود، أمضى الناقد والأكاديمي يوسف بكار (1942) رحلة بحث معمّقة وطويلة حول سيرة عمر الخَيّام وأشعاره، موضحاً في أكثر من مؤلّف له عدم وجود ديوان منفرد متَّفق عليه يضمّ رباعياته التي لا يُعلم إلى اليوم عددها والصحيح منها والمنحول، إذ تصل نسخها المختلفة إلى الآلاف. اشتغل صاحب كتاب "عصر أبي فراس الحمداني" ضمن مسارين؛ الأول تتبّع خلاله أعمال الشاعر الفارسي (1048 - 1131) بالفارسية التي تعلّمها وأتقنها والعربية كذلك، وأخباره في التراث، والدراسات المعاصرة حوله، وتأثراته بالعربية وتأثيراته فيها، والثاني حقّق فيه ترجماته المتعددّة، معلّقاً عليها ومحدّداً الأخطاء الذي وقع فيها المترجمون وأسبابها.
في هذه الطريق الطويلة، يترجم بكّار مؤلّفاً جديداً بعنوان "وقفة مع الخيّام.. في البحث عن الخيّام والرباعيات" (1965) للباحث الإيراني علي دشتي، والذي صدرت نسخته العربية حديثاً عن "الآن ناشرون وموزعون"، والتزم فيه بمنهج بحثي دقيق عن السمات الحقيقية للشاعر بالنظر إلى الأساطير والأوهام العديدة التي نُسجت حوله، والكشف عن رباعيته القليلة التي تضاعفت كثيراً بعد رحيله.
يلفت المؤلّف في تقديمه إلى أن الباحثيْن الروسي فالنتاين زوكوفيسكي والفرنسي جي. بي. نيقولا، تنبّها في ترجماتهما للخيام إلى تلك التناقضات التي لا يمكن أن تجتمع في شخص واحد، مع اكتفاء غالبية المستشرقين بترجمة أعداد من الرباعيات فحسب، مقابل قلّة منهم سعوا إلى غربلتها وتخليص صاحبها من سوءات روايات معاصريه، وهو ما رصده في القسم الأول من الكتاب.
كانت الحيرة مركز فلسفة الشاعر الفارسي حول الخلق والحياة
بقدر ما تتّضح شخصية الخيّام الفيلسوف والرياضي التي كُتب عنها أكثر من ألفي كتاب ورسالة ومقالة، فإن الخيّام الشاعر لا يزال مجهولاً، بحسب دشتي، الذي يرى أن علّة الاضطراب والاختلاف مرّدها أن الرباعيات لم تُجمع خلال حياته، ويمكن القول إنه "لم تنشر له ولو رباعية واحدة، وليس ثمّة من معاصريه ممن عرضوا له في مناسبة ما من أشار إلى أنه قال شعراً".
ويضيف: "فلكي نهتدي إلى الخيّام الشاعر، لا بدّ من سلوك طريق غير الطريق المعروفة المعهودة، أي أنه لا بد لكشف شخصية الشاعر ومعرفة سماته المعنوية من العودة إلى أشعاره، والاستعانة بأقواله. لأنه لا يمكن استجلاء سمات الشاعر بالاعتماد على رباعيات تحمل اسمه في مجاميع شتى. والرجوع إلى أعماله الثابتة له".
يعود دشتي بدايةً إلى الخيّام كما تحدّث عنه معاصروه، الذين يجمعون على زهده وحكمته وابتعاده عن كل قول أو فعل يُذهب عنه الهيبة والوقار، والاعتدال في كلّ أموره وشؤون حياته واتهمه البعض بالبخل في العلم؛ إذ لم تُعقد له حلقة تدريس ولم يخلّف تلاميذ له، حيث كان "ذا فلسفة خاصة، وليس صاحب مذهب فلسفي، أو طريقة فلسفية"، وهو يدين بقبول العقول لكنه لم يمتلك يقيناً قاطعاً في كلّ ما أوردته "فلسفة المشائين" التي بسطها معلّمه ابن سينا.
ينتقل بعدها إلى الشكوك التي تدور حول ما ألّفه صاحب "رسالة في الكون والتكليف"؛ حيث ورد أوّل ذكر لأشعاره العربية لدى العماد الأصفهاني بعد رحيل الخيّام بنحو نصف قرن، وإن وجد العديد من المؤرّخين أن نسبتها إليه أقرب في حال عبّرت عن شخصيته، ففي أمثلة عديدة منها ثمّة افتخار بعلمه وفلسفته وهو ما لا يتلاءم مع ما عُرف عنه من تواضع.
تنبّه مستشرقون إلى تناقضات في رباعيات نُسبت إليه
يُبيّن المؤلّف أن هناك من أعلام التاريخ العربي الذين لا يمكن تصنيفهم ضمن فرقة أو جماعة، مثل المعرّي الذي لا تستقيم نسبته إلى الإسماعلية أو الهندوسية (البرهمية) أو التشيّع الذي اتهم به ابن سينا، ويضاف إليهم الخيّام الذي كان فوق التقسيمات المذهبية، كما حاول البعض في تصنيفه بالنظر إلى تحليل مضمون بعض الرباعيات.
يقسّم دشتي المصادر التي يعود إليها للتحقّق من الرباعيات الأصلية التي كتبها الخيّام، إلى الكتب الأكثر موثوقية ومنها "التنبيه" للرازي و"مرصاد العباد" للدايّة و"جهانكشاي" للجويني، والتي تتضمّن ستّ عشرة رباعية مثل "هذا العالم الذي نجيء منه ونمضي/ لا بداية له ولا نهاية/ فليس ثمة من يقول صحيحاً: من أين جئنا وإلى أين نمضي".
ويدقّق أيضاً مصادر أُخرى للوقوف على التناقض في ما حوته وبين آراء الخيّام، ويتتبّع أيضاً مصادر جديدة بنفس الطريقة؛ حيث وصلت إلى ستّ وثلاثين رباعية بعد نحو مئة عام من رحيل الخيّام، وحوالي ستّين رباعية حتى منتصف القرن التاسع الميلادي، ما يقود إلى الافتراض أن تراخي سلطة الأشاعرة كان مدعاة لظهور رباعيات جديدة صاغ على منوالها آخرون.
يخلص دشتي في القسم الثالث والأخير المعنون بـ"الفكر الحائر"، إلى أن "مردّ شهرة الخيّام بين أرباب الذوق وتقدير المستشرقين له ينبع من حلوله في هذه الدائرة (الحيرة) ورأيه الثابت الذي أبداه؛ فكّل أفكاره عن الخلق والبحث عن غاية معقولة له وتفكيره الدائم في أمر المعاد واختلال أمور العالم ولا معقولية القضايا المسلّم بها والشكّ في مقولات البشر العقدية واليأس من حياة أخرى؛ كل هذه جميعاً أوصلته إلى النتيجة التي انتهى إليها أو كان دليلاً على أنه يحرث في بحر".
ويرى أنه لم تكن للخيّام فرضية ثابتة جازمة، وربما كانت، لكنّه لم يفه بها، ويقال إنه كان معنياً بالفرضيات الرائجة في زمانه، ولا يرى بداية ونهاية لعالم الوجود، وكان يشكّ في دوران الأفلاك وسير السيارات (الكواكب) ويدعوها "المدبّر الحيوان"، ولم يقل بأي تأثير خارج التأثيرات الطبيعية للسيارات السبع؛ فموجودات الكرة الأرضية مركّبة من العناصر الأربعة، لكن ليس ثمّة معلومات مسلّمة عن كيفية هذا التركيب وعلّته، ولن تطول بالمسائل الرياضية القاطعة.
ويستشهد دشتي هنا برباعية توضّح أن فهم الخيّام بأن عناصر تركيب الجسم الحي المتماسك في طريقها إلى الانحلال بحيث لا تعود إلى حالتها الأولى: "يا من هو نتاج أربعة عناصر وسبعة أفلاك/ إلام تظلّ متألّماً تفكّر فيها؟/ اشرب الخمرة، فقد قلتُ لك ألف مرّة: ليس لك عودة إليها/ فإذا مضيت مضيت".