يعود المفكر الكيني من أصل عُماني علي الأمين مزروعي (1933-2014) في كتابه "القوى الثقافية في السياسة العالمية"، إلى الجذور الثقافية التي قام عليها النظام السياسي والاقتصادي كما نعرفه في عالم اليوم. وهو كتاب صدرت ترجمته حديثاً عن "منتدى العلاقات العربية والدولية" في الدوحة، ونقله إلى العربية المترجم أحمد حسن العيني، ويعتبر واحداً من أبرز إصدارات مزروعي المتخصص في الدراسات ما بعد الكولونيالية، التي بدأت بكتابه الأول "الأيديولوجيا والطموح" عام 1967، وانتهت مع آخر إصداراته "سياسات الحرب وثقافة العنف" (2008) الذي اشترك فيه مع باحثين آخرين.
قبل هذا الكتاب بعقود كان مزروعي قد أصدر "فدرالية عالمية للثقافة" نهاية السبعينيات، وفيه كان يتمثل نوعاً من الاتحاد العالمي للثقافات وليس الدول، بحيث تكون الثقافة معادلاً في قوتها وحضورها لـفكرة الدولة نفسها، معتقداً أن في هذا تحقيقا للعدالة بين أطراف العالم، من دون تقسيمه إلى عالم أول وثالث، ولكنه في كتابه هذا يتناول الثقافة من وجهة نظر أخرى، ويناقش علاقتها باللحظة التاريخية الراهنة من خلال طرح عدة قضايا أساسية تؤرق العالم المعاصر.
ينهمك الكاتب في هذا العمل أساساً، باستجلاء علاقة الغرب الليبرالي بما يطلق عليه "العالم الثالث"، وذلك من خلال التطرق إلى مواقف الأول من قضايا كالجندر والإسلام والفصل العنصري والعرقية والصهيونية، داعياً الحضارات غير الغربية، والتي كانت ضحية الكولونيالية إلى التوقف عن النظر إلى الذات من منطلق مرجعيات الآخر.
يأتي الكتاب في ثلاثة أجزاء، يتناول في أوّلها الاجتياح الثقافي للتاريخ أو الحدود المتحركة لثقافة العالم، ويتطرق بالتحديد إلى النظام المقدس والتوحيد والعولمة والعلمانية وطبقية الحضارات. إلى جانب فصل موسع عن تاريخ السيطرة من الساميين وحتى الأنغلوساكسون، وهو فصل يشتبك فيه الكاتب مع علاقة الدين بالاقتصاد والجندر والسلطة الثقافية والسلطة الرأسمالية، إلى أن ينتقل إلى دراسة السلطة والأيديولوجيا من النبي محمد إلى ماركس من حيث العلاقة بقوى السوق، باحثاً عن إجابة لسؤال حول حقيقة وجود نمط إنتاج إسلامي.
وللحديث عما يسمّيه مزروعي "الخيانة الثقافية"، فإنه يعود إلى رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي ويضربها كمثال على هذا المفهوم، ويعتبر أن الروائي بنى عمله على التشهير بالموتى (زوجات النبي) وعلى خيانة الأمة ثقافياً، وأن "التجديف" يبدأ من العنوان الذي يشيطن القرآن. ثم يعقد الكاتب مقارنة بين الخيانة الثقافية كما يراها هو، وتلك التي يرفضها الغرب نفسه حين يتعلّق الأمر بمرجعياته الدينية والهوياتية.
يقارن مزروعي أيضاً بين "الغربنة" و"التحديث"، حيث يرى الكاتب أن هناك شعوراً عاماً ينظر فيه الغرب إلى مسيرة التاريخ كما لو كانت ذات وجهة واحدة، وهي تطوير المؤسسة الغربية، ثم أصبح هناك افتراض متضمّن، يقوم على أساس أن التحديث -أي تحديث- يقتضي الغربنة، أو التغريب، والآن أضيف لهذين المصطلحين العولمة، الذي يسير نحو الوجهة نفسها، وهكذا أصبحت الحضارة الغربية حضارة عالمية في جوانب ليس من ضمنها العدالة الاقتصادية أو السياسية.
وقبل أن يخصص فصلاً عن "أميركا والعالم الثالث"، يناقش علاقة القوى العظمى في التاريخ بأخلاقيات العنف كما يسميها، ويصف العلاقة بين العالمين "الأول" و"الثالث"، بأنها مجرد حوار طرشان، في فصل ربما يكون الأكثر تشويقاً وعودة إلى أحداث تاريخية ومقارنات سياسية وثقافية جديدة في طرحها، فيعقد مقاربات ومقارنات بين التعصب العرقي والحرية الدينية، وبين "إسرائيل" وليبيريا، وبين "مشروع مارشال" الذي كان مصمماً كخطة لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وبين الإرث الذي تركته هيروشيما.
يتوسع الكاتب في فصلين متتالين حول الصهيونية، وهو الذي حوصر أكثر من مرة في أميركا حيث كان يدرّس بتهمة "معاداة السامية". كما يفرد الكاتب فصلاً حول الجندر وعلاقته بالسلطة والدين والحرب والتغيير. أما الجزء الأخير من الكتاب فجاء بعنوان "بحثاً عن التغيير" وقد خصّصه للمساعدات التي يتلقاها جنوب العالم وشروطها وعلاقتها بالثقافة والتاريخ، ثم نتائجها، ثم يتناول علاقة العالم الثالث بالإرهاب الدولي، باحثاً عن مخرج ثقافي يصلح كتفسير للعالم الآن.