على هامش السيرة الحربية السورية

07 يوليو 2019
+ الخط -
بعد تحرير مدينة إدلب ظهر يوم السبت 29/3/2015 أصبح نصف مليون إنسان مثل طيور حمام أضاعت اتجاهها، ترتجف خوفاً وتموت رعباً من صوت هدير الطائرات الحربيَّة، والقذائف الصاروخيَّة، وتساقط شبابيك الجيران على شبابيك الجيران.

ما عُدنا نُطيق خلع أبواب قلوبنا ونوافذ منازلنا وهشيم البلور في حدائقنا وبكاء الشُهداء في مقابرنا والمُصابين في مشافينا. حملتُ أبي وأمي في سيارة واتجهنا إلى مزرعة أخي المهجورة المنهوبة في وادي "حاج خالد" غرب مدينة إدلب.
أغار الطيران الحربي أول مرة مستهدفاً بعد منتصف ليلة الأحد 30/3/2015 مشفى الهلال الأحمر في قلب المدينة بصاروخين أحرقا المشفى بمن فيه. في الصباح الباكر ذهبتُ إلى ما كان مستشفى الهلال الأحمر وسط ساحة بازار المدينة، كان المشهد مُرعباً كيفما نظرتَ إلي.


في الأسبوع الأول من شهر أبريل/نيسان عام 2015، أحصيتُ أكثر من خمسين غارة جوية بصواريخ مختلفة منها الحارق والخارق والمارق، وكنتُ أذهب في الفجر لموقع الاستهداف الليلي لرؤية هول الدمار. تساءلت حينها بماذا كان يفكر القائد العام للجيش والقوات المسلحة عندما أمر الطيران الحربي بقصف المشافي والمراكز الطبيَّة في مدينة إدلب؟

هرول الناس من المدينة -المؤيد والمعارض- إلى القرى والمزارع والبساتين حول المدينة حاملين ما تيسَّر من حاجيات ضرورية وافترشوا الأمكنة التي وصلوا إليها، أرض جدك أرض جدي لا فرق. وكان الربيع في أول تنفسه ما يزال، وبراري إدلب خالية لا فيها حياة ولا ما يؤكل..

وبدأت المجزرة، كانت الطائرات الحربية تصبُّ حمم صواريخها على المدينة، ثم تبعها الطيران السمتي ببراميله وصهاريجه وحاوياته المتفجرة. ثم تبع هذا الكلّ الطيران الحربي الروسي وصواريخه الارتجاجية. وحين تجتمع كل أنواع الطائرات بكل أنواع الطائرات في سماء مدينة إدلب تكون المجزرة مضاعفة وأشلاء البشر على مدّ النظر.

في ملجأ تحت الدرج نسمع هدير الطائرة المروحيَّة على علو شاهق تأتينا على مهل من فوقنا.. يا الله إلى أين نروح؟ نتسمَّر في أماكننا، ها قد وصلت فوق المدينة، وها هي تُلقي حمولتها فنسمع هديراً يشقُّ الهواء الساكن شقاً، تشطره شطراً، نسمع صفيراً كصوت عاصفة من ريح صرصر، على من ستسقط هذه الكتلة المتفجرة الهوجاء العمياء؟ وكم ثانية من الوقت حتى تصل الأرض؟ من يعرف ذلك في ليل المدينة البهيم.

كُنا نراقبها حين سقطت كتل الإسمنت تلك التي تزن أكثر من طنَّين، لا نراها حين سقوطها في الليل بل نسمع صوتها، ومن سمع ليس كمن رأى: كتلة اسمنتيَّة ساقطة من طائرة سمتيَّة حربيَّة تُحلِّق في سماء المدينة على علو أكثر من خمسة كيلومترات، وأنت تحتها، يُلقيها صاحب ذلك الخيال الباذخ، فتهمد الأبنية همداً بمن فيها. ونقول من شفاهٍ ابيضَّت من الرعب: كيف تحتمل قلوب البشر هذا التسونامي من الخيال المُرعب؟ ومن اخترع هذه الفكرة الجهنميَّة؟ هل كان يشرب وسكي اسكتلنديَّة، أم هذه خيالات حشيش؟ هل نحن في محششة، في غرزة عسكريِّة؟ هل يُعقل أن جنرالاً في الجيش يقول لعناصره: استعملوا هذه الكتل الاسمنتية ضد "الإرهاب" بعد أن نفذت ذخيرته من البراميل المتفجرة. كيف تفتق خياله عن هذه الفكرة الخياليَّة؟ كتل اسمنتيَّة يُسقطها على البشر، ليقتل "الإرهاب" فكرة عصريِّة لم تحصل في التاريخ الحديث.

لي ملحوظة هُنا:
لا بد من شرح ما نعنيه بالبراميل المتفجرة -لمن لا يعرف- وهي فعلاً تحتاج إلى شرح لأنها غير الألغام التي تُسقطها الطائرات المروحية فوق رؤوس الخلق وقد انفجر أحدها في الجو قبل وصوله للأرض في منطقة "الضبيط" عند جامع الفرقان في مدينة إدلب واستُشهد بشظية منه صديقنا "حنا حكيم" بعد عصر يوم الثلاثاء 11/8/2015.

تعال أحكي لك فقط عن ثلاثة أنواع من هذه البراميل ومواقع سقوطها في مدينة إدلب:

أخطرها الصهريج المتفجر. خزَّان الماء؟
نعم هو ذاك الذي يجره التركتور الزراعي ويتسع لخمسة آلاف ليتر. يُعدَّل ويُحشى بما تيسر من متفجرات وتحمله المروحية ربطاً بالحبال وتتجه صوب هدفها في اللامكان. يقول المثل عندنا في إدلب "يا حجرة ربي وين ما طبيتي طبي" وكذلك الأمر مع هذه الصهاريج التي تحمل قوة تدميرية هائلة. سقط أحدها فوق بناية "أم الياس" من أربعة طوابق فأزالها من شروشها مع جيرانها وأهلك نصف الزقاق في حي الثورة عند مكتب وردان بدلة العقاري. أما الصهريج الذي وقع في حارة بستان "آل الرَّنة" إلى الشمال من "بن الأحلام" فكان حُلُماً بقوة "سبعة" على مقياس ريختر للزلازل.

النوع الآخر برميل مصفَّح أكبر من برميل النفط بقليل
تركب له أربع عجلات معدنية ثمَّ "يُدكُّ" بأنواع المتفجرات وبفتيل إشعال ظاهر ويُحمل في بطن المروحيَّة وقد تحمل أكثر من واحد وتتجه صوب مسرح العمليات لتولد هُناك. سقط أحدها على الرصيف الشرقي بين القصر العدلي والمحافظة ولم ينفجر ولكنه تمزق وبانت أحشاؤه. وقد كان موجوداً في المكان حين غادرتُ المدينة في رحلة الرحيل إلى شاطئ بحر إيجة أواخر شهر تشرين الثاني عام 2016.

النوع الثالث حاويات الزبالة
يعرفها الجميع.. تُصفَّح الحاوية المعدنيَّة من جديد بالحديد وتُحشى بالمتفجرات حتى تُغشى، ثمَّ تُحمل ربطاً بالحبال إلى مكان التنفيذ وترمى هُناك على الخلق. سقطت إحداها على كتف حارة بيت "آل عبيد" خلف المصرف المركزي في الحارة القبليَّة فأهلكتها. وكنا نشاهد من سطوح بنايات مدينة إدلب سقوط الحاويات المعلقة بالحبال في المروحيات الحربية على أختنا مدينة أريحا التي تبعد عنا عشرة كيلومترات.

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.