على سبيل الاستثناء

01 اغسطس 2016

سائق التاكسي سفير متجوّل (Getty)

+ الخط -
الحق أن السائق المهذّب الذي تصرف باحتراف بالغ فاجأني كثيراً، وذكّرني بسلوك السائقين في بلاد أوروبية متقدّمة، فلا يجلس الراكب إلا في مكانه المفترض في الخلف، حيث يفصل حاجزٌ زجاجيٌّ بينه وبين السائق، يتيح لكلّ منهما خصوصية تامةً غير منقوصة. يجري ذلك بشكلٍ طبيعيٍّ، من دون أن يُعدّ ذلك استهانةً أو قلة احترامٍ للسائق ومكانته في المجتمع (!)
غير أن ما يحدث في الأردن، وبلدان عربية أخرى، مختلف تماما؛ إذ غالباً ما يصر سائق التاكسي على الركاب الرجال الجلوس بجانبه، تحت طائلة التهديد بإنزالهم من التاكسي، في حال عدم الاستجابة لرغبته، وقد يسمع الراكب جملة، (أنا مش شوفير اللي خلفك). حدث مثل هذا الموقف مع سياحٍ كثيرين، ما أن يقدم أحدهم على الجلوس في الخلف بجانب زوجته، حتى يعبّر السائق المطعون في كرامته (!) عن احتجاج شديد على السلوك المتعالي، بحسب وجهة نظره.
حصلت حادثة طريفة في هذا السياق مع الشاعر الراحل، محمود درويش، في عمّان، حين كان بصحبة أحد أصدقائه. جلسا بشكلٍ عفوي في الخلف، ما أثار غضب السائق، ورفضه تحريك السيارة قبل جلوس أحدهما بقربه، حسب الأصول (!)، فبادر درويش إلى الجلوس مجاوراً للسائق العصبي، اختصارا للشر، وقال بسخرية تعقيباً منه، على تعليق صديق عن رعونة السائق: لا، يا صديقي، بل نحن من لا يحسن ركوب السيارة على ما يبدو.
سارع السائق اللطيف الذي أقلّني ذات صباح ليس بعيداً إلى خفض الراديو الذي كان يبث موسيقى كلاسيكية ناعمة، كما بادر إلى إطفاء سيجارته، حال صعودي إلى السيارة التي كانت نظيفة جدا، وخالية من الإكسسوارات الفجّة التي تجعل بعض سيارات التاكسي تبدو مثل ملهىً ليلي، ولم يكن على "التابلوه" سوى البطاقة الشخصية التي تتضمن بيانات السائق بشكل واضح.
ولم يكن العدّاد معطلاً، ولم يسألني السائق قبل أن أستقل سيارته عن وجهتي؛ لأنه يدرك أن مهمته، وبحكم القانون، إيصال الركاب حيث يرغبون، حتى لو تعارض ذلك مع مزاجه الشخصي، ولم يحاول، في أثناء الطريق، التظارف، أو فتح حوار عن الأحوال "التعبانة"، أو تحليل الأوضاع السياسية، أو سرد قصة حياته التي لن تخلو من مبالغات. وقاد سيارته بهدوء واتزان وصمت، ملتزماً بقواعد المرور، ولم يفتح نافذة السيارة في أي مرحلة؛ كي يبصق، أو يلقي القمامة، أو يشتم مَن ارتكب إثماً مرورياً غير فادح. اعتبرت نفسي محظوظةً لمصادفتي هذا السائق النموذجي، غير المتوفر بكثرة في شوارعنا للأسف. ذلك لأن استخدام سيارة تاكسي في عمان لا يعد تجربة لطيفةً، في معظم الأحوال؛ فمعظم السائقين لا يدركون طبيعة العقد المبرم بينهم وبين الركاب، وهو ينص على تقديم خدمة النقل في ظروفٍ مريحة، لا تسبّب أيّ إزعاج في مقابل أجرٍ محدّد. وللإنصاف، ما تزال الأجرة المقرّرة في الأردن تعد زهيدةً، مقارنة بدول كثيرة، والإحباطات التي يعاني منها العاملون في هذا القطاع أكثر من أن تحصى.
لا يبرّر ذلك رداءة الخدمة، وثمّة مواقف كثيرة مؤذية تعرّض لها مواطنون؛ بسبب تصرفاتٍ فجّةٍ يقدم عليها بعض السائقين؛ مثل فرض مزاجهم الموسيقي الهابط، بتشغيل أغانٍ غير لائقة، تخدش الحياء وتسبّب الحرج للركاب، خصوصا النساء منهم. أو الاستماع القسري إلى دروسٍ دينية، لا تخلو من كراهية وتطرّف وتعصب وتحريض وإرهاب (!)، ولا ينبغي، بأي حال، الاستخفاف بهذه الظاهرة التي تعكس صورةً سلبيةً مؤسفة، خصوصا أمام زوار البلد.
والمعروف أن الانطباع الأول الذي يأخذه الزائر لأي بلد يتأتى من تعامله مع سائقي التاكسي. وانطلاقا من أهمية هذه النقطة، فإن رقابة الجهات المعنية بالشأن المروري ضرورة قصوى؛ لأن سائق التاكسي سفير متجوّل، ينبغي أن يكون مؤتمناً في تقديم الصورة الأكثر بهاءً عن ثقافة أبناء البلد وتقاليدهم وكرم أخلاقهم، وهي مسؤولية جسيمة، وأمانة لا بد من التيقن دائماً من أهلية حاملها.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.