على حافة جبل ايرزبيرغ: عزلة النيجيري الحزين

21 يونيو 2019
"تنقلات الجبل القريب": حكاية عزلة واغتراب (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يضع النمساوي زيباستيان برامسهوبر (1981)، العلاقة الناشئة بين ميكانيكي السيارات، النيجيري الأصل، كليف أغو، ومكان عمله القريب من جبل إيرزبيرغ (الألب النمساوي)، في سياق معادلة كيميائية ـ بصرية، كلُّ عنصر فيها يؤدّي وظيفته التفاعلية. وكما في المعادلات كلّها، هناك عوامل رئيسية وأخرى مُساعدة، تُسَرِّع التفاعل. في حالة كليف، وبحكم عمله في "تفكيك" السيارات القديمة وبيع الأجزاء الصالحة منها كخردة، يُشكِّل الحديد العنصر الأساس، بينما يجعله الزمن عنصرًا ثانويًا في قلب معادلة صناعية مُعقّدة، يتوقّف عندها الوثائقي "تنقّلات الجبل القريب" (إنتاج نمساوي فرنسي نيجيري مشترك، 2019)، مُتأمّلاً غرائبيتها وحِدَّة تناقضاتها، ومُقترحًا لسردها لغةً شعرية (يا للغرابة)، كَتَب بها نشيدًا سينمائيًّا حزينًا عن الاغتراب والعيش وسط المعادن الصلبة. 

يؤطّر الفيلم ـ الحائز على الجائزة الكبرى في الدورة الـ41 (15 ـ 24 مارس/ آذار 2019) لـ"مهرجان سينما الواقع" في فرنسا ـ سرده الحكائي بالمكان، لصلته الشديدة بحياة المُهاجر النيجيري، القادم إلى إحدى أكثر بقاع النمسا التصاقًا بتاريخها الصناعي: جبل إيرزبيرغ. الجبل الأسطوري ـ الذي يُنسَب إليه سبب تطوّر الحضارة الرومانية في منطقة الألب، بفضل ما جَادَ به عليها من حديد ـ دخل في صناعاتها الحربية، وساهم في عمرانها. لقرون عديدة، مَدّ الجبل البارد الأجيال الصناعية المتعاقبة بما تريده منه. على حافته، وجد النيجيري معملاً مهجورًا، استأجره وجعله ورشةً لتصليح السيارات القديمة، يبيعها ويُصَدِّر أجزاء منها إلى بلده.

بهذا، هو قريب من مصدر خامة طبيعية، غيَّرت وجه البشرية، ووصمت مراحل طويلة من تاريخ تطوّرها باسم "عصر الحديد والفولاذ".



هناك، خَلق المهاجر الغريب معادلة جديدة، صعبة وملتبسة، فرضت على راصدها إضافة عناصر مُساعدة لها، حرّرتها من ضيقها، وساعدت السيناريو على إدخال قصص جانبية أثْرت متنها الحكائي.

عُزلة الميكانيكي النيجيري لا توفّر فرصًا كهذه. لكن، ربما يُمكن لنمط عيشه اليومي ـ المصهور داخل ورشة، بالإضافة إلى توحّده مع المعادن وعزلته الحزينة ـ أن يكون دافعًا إلى معالجة سينمائية مختلفة، تتّخذ من المشهد الصناعي مسرحًا، ومن روح الإنسان مركزه. عندها، يغدو السرد الشعري مُمكنًا، وقادرًا على إحالة الصلابة إلى لينٍ، والعزلة إلى مُشاركة مع المحيط.

إلى ذلك النمط من الاشتغال، توجّه زيباستيان برامسهوبر، وقرّر معاينة العلاقة المؤقّتة للمهاجر بالجبل القريب منه، وبخاماته التي وصلت إليه بعد تصنيعها. بكاميرا شاعر (المصوّر كليمنز هوفناغل)، وبحساسية مونتير مرهف (البوسني داني كوملين)، تعامل مع الخامات المُصوّرة كمقاطع موسيقية من نشيد شاعري لا تنقصه سوى الفواصل.

كليف، المتوحّد مع المكان، يتحرّك وسطه بانسيابية لافتة للانتباه. بكاميرا ثابتة أمام ورشته، يبدو كأنّه يتحرّك بين مروج خضراء. الحديد يطاوعه كأنه مُسخّر لخدمته. يُرتّب خردة السيارات المقطّعة بالحديد والنار، كما يُرتّب صائغ الذهب مصوغاته. أمينٌ ومخلص، لا يساوم كثيرًا على السعر الذي يقدّمه للقادم إليه مُشتريًا. سُمعته طيّبة، وعيشه بسيط. يأكل وينام في ورشته، ولا تتعدّى حركته بضعة كيلومترات، يخطوها بحثًا عن سيارات معروضة للبيع.
علاقته بالوسط الجغرافي نابعة من علاقته بمُنتَج صناعي متطوّر، يُشار به غالبًا إلى تطوّر مستوى صانعه الحضاري. فالسيارات تجتمع في صناعتها العلوم كلّها تقريبًا، وهي نتاج عقل غربيّ بامتياز. تدخل عليه باستمرار أطراف طارئة، لكنها تُعامَل من قبل صانعيها على أنها عناصر "طفيلية"، حتى عندما تكون في صلب المعادلة الكونية المنفتحة. تفاصيل حياته اليومية تشي بانفصال ورغبة في الانسحاب. لا علاقات اجتماعية تربطه بالمكان القريب من جبل الحديد، سوى صداقته مع مواطنه ماغنوس أوغبونا.

يلتقي الصديقان، ويتبادلان حديثًا مبتسرًا، يدور غالبه عادة حول العمل في النمسا، ومقارنته بنيجيريا. كثيرًا ما يقترح أحدهما على الآخر أفكارًا تجارية يتمنّيان تحقيقها ذات يوم في بلدهما. منها، يختار النمساوي مقاطع تتيح له ولمونتيره إمكانية الانتقال إلى عوالم أخرى، بعيدة عن المكان المهجور. مقاطع تحكي عن خيبة أمل بحكومات تعامل المهاجرين من مواطنيها كأبقار حلوبة. يزداد لصوصها. تُفرض عليهم ضرائب. لا أحد يعبأ بعزلتهم المريرة واغترابهم الموحش. شاعرية النص السينمائي تتأتى من الأسى المنقول مع القادم إلى جبل الحديد، حاملًا أحزانه معه، كـأنها جبل من أسى متنقّل. التقاط العدسات المقرّبة لإحساسه العميق بالعزلة، وتفاصيل عيشه الزهيد، تُكَوّن لوحات بصرية حزينة. الكائن المركون في فضاء غريب، والشاغل نفسه بالعمل الجسدي، يتوسطها ويأخذ معظم مساحتها.

موسيقى يوهانس شميلزر ـ زيرينجر تقرّب الإحساس بالانتقالات الخفيّة للجبل. المقاطع المصاحبة لعمليات تقطيع المعادن، وتحوّل وجهة عدسات الكاميرا إلى الفضاءات المحيطة بالمكان، توحي أن انتقالات مكانية تحدث بصمت. الموسيقى تفضحها وتمنحها مزيدًا من الشاعرية، والمَشاهِد الخارجية البعيدة تُعيد توزيعها، مُذكِّرة بوجود علاقات متبادلة شبه دائمة بين الكائن ومحيطه.

هذا تؤكّده الحكايات الشعبية، المتوارثة عن جبل إيرزبيرغ. تكرارها يذكّر الغريب باغترابه المزدوج، فهو لم يكن يومًا من حفّاري مناجمه، ولا من مُعَدِّني حديده. هو، بالنسبة إليه، لا يزيد عن دخيل طارئ على نتاج عقول السكان الأصليين في منطقته. لا يهمّ الجبل ما يُثيره من إحساس بالحزن عند القادم إليه من بعيد. الأخير لا ينقطع عن التفكير بهجره، والعودة إلى المكان الذي أتى منه.

تنقّلات الجبل غير مرئية، بل متخيلة. أما تنقلات الغريب، فمُعلنة، ويمكن رصدها بسهولة. ذلك ما فعلته كاميرا برامسهوبر عند مرافقتها كليف في آخر رحلاته لبيع خردوات سيارات في بلده. الاختلاف الصارخ في نوع الحياة وشكلها بين المكانين لم يُلغ إحساسه العميق بالاغتراب. هذه المرة، كان الإحساس مُضاعفًا، ومصحوبًا بخوف من عالم تركه وعاد إليه محسودًا ومراقبًا. تدفعه خيبة أمله في بلد تركه، وتمنى أن يجده أحسن، إلى البحث فيه عن مكان معزول يشبه المكان الذي تركه هناك، وعانى فيه قسوة الوحدة.
المساهمون