أحد أشهر الأخطاء في الفهم انتشاراً هو القول إن تعليم الأطفال لغة إضافية في سن صغيرة سوف يتسبب في تأخرهم عن أقرانهم لغوياً، كذلك ينضم لتلك اللائحة القول الشائع إن الأطفال سوف تتطور بداخلهم حالة من الحيرة الشديدة بسبب اختلاف الكلمات والقواعد النحوية بين لغة وأخرى مما قد يتسبب في تأخرهم دراسياً.
أما الشائعات الأكثر سوءاً وانتشاراً فهي تتعلق بالقول إن الأطفال ثنائيي اللسان Bilinguals – المتحدثين بلغتين - أقل ذكاء من غيرهم، أضف لذلك الاتهامات المنتشرة لذلك القرار من قِبل الوالدين بأنه إبعاد للطفل عن منبع هويته وثقافته الأصيلة.
باختصار شديد، يمكن القول إن كل ما سبق هو أفكار لا علاقة لها بحقيقة الأمر، إذ لا يوجد دليل علمي، تربوي، نفسي، واحد يمكن له أن يؤكد أي من تلك الشائعات، لكن هناك بالفعل ما يؤكد أن الطفل ثنائي اللسان يحصل على دفعة من الهدايا غير المتوقعة مع اللغة الإضافية التي يتعلمها في طفولته، فالأمر لا يتعلق فقط بقدرتك حينما تكون ثنائي اللسان على مشاهدة فيلم بدون ترجمة أو قراءة كتاب ما، لكن دماغ ثنائيي اللغة يعمل بطريقة مختلفة.
تعليم الأطفال لغة إضافية في سن صغيرة يسمح له مستقبلًا بإدراك السياقات الإجتماعية والعاطفية لتلك اللغة، ويحسن ذلك من قدرته فيما بعد على رؤية الصورة الكلّية للأمور بشكل أفضل، حتى أن الأبحاث تؤكد أن ثنائيي – ومتعددي – الألسنة تحتوي أمخاخهم على كثافة أعلى من المادة الرمادية، والتي تحوي معظم خلايا مخك العصبية ووصلاتها، مع ارتفاع نشاط عدة مناطق في المخ عن أقرانهم أحاديي اللسان، وهو النشاط الذي يتوقع الباحثون أنه سوف يكون مفيدًا مستقبلًا في مواجهة أمراض انهيار وتراجع النشاط المخّي كالزهايمر.
كذلك تؤكد الدراسات الحديثة أن الأطفال، والكبار، متعددي اللغة تتربى لديهم مع الوقت – بسبب نشاط واضح في مناطق بالقشرة الجبهية المخّية - قدرة أكبر على التحول من نشاط لآخر بكفاءة، مما يجعلهم أكثر قدرة على أداء المهام التنفيذية عن أقرانهم، والتي تتطلب تخطيطا وتنفيذا، مع قدرات أعلى على حل المشكلات، تعزيز الانتباه، والتركيز بدرجة أكبر على تحليل الأمور، حتى أن الكثير من الأبحاث تؤكد أن ذاكرة ثنائيي اللغة - في العديد من أنواعها - ربما تكون أقوى من أقرانهم.
أضف إلى ذلك أن أحد أهم مزايا تعلم الطفل لغة ثانية بصورة أساسية وإتقانها كمتحدثيها في مرحلة مبكرة من عمره هو فتح باب واسع كي يفهم الطفل ويتقبل ثقافات أخرى، فكما قلنا منذ قليل أن الأمر إن بدأ مبكرًا سوف تساعده مرونة أدمغة الأطفال في تفهم عدد من السياقات الاجتماعية والعاطفية للغة، سوف يدفع ذلك بالطفل إلى فضول أكثر للتعرف على العالم من حوله، بشكل أسرع وأكثر حساسية للتنوع وأكثر عمقًا ولمسًا للحقائق والمتغيرات عن أقرانه.
أخيرًا، وبالطبع، فإن الإهتمام بتعليم الطفل لغة إضافية بحيث يتعامل معها موجبًا (يكتب ويتحدث بها) أو سالبًا (يستمع ويقرأ بها) بشكل جيد لهو تأمين بدرجة ما لفرصة مستقبلية في عمل جانبي، فبجانب أهمية تعدد اللغات في عصر الوظائف الحديثة، يمكن لابنك حينما يكون في مرحلة عمرية تالية - الجامعة مثلًا أو قبلها بقليل - أن يجد وظيفة إضافية في الترجمة بجانب تخصصه، سوف يفيد ذلك كثيرًا خاصة مع حركة الكتابة والترجمة التي باتت رائجة وتزداد رقعتها اتساعًا كل يوم، سوف تكون الترجمة هنا هواية إضافية ممتعة، خاصة إن قرر وقتها العمل في ترجمة بعض الأعمال الفكرية، العلمية، الهامة، سوف يعطيه ذلك كما جوهريا من المعارف.
أضف إلى ذلك، فإن المحتوى المكتوب بالعربية، كتبًا ومقالات وشروحات ومحاضرات تعليمية في كافة العلوم لا يُقارن أمام المحتوى المقدم بالإنكليزية، فمقابل – مثلًا - كل مرجع بالعربية في علوم الفلك، الفيزياء النسبية، عالم الكوانتم، سوف تجد بالإنكليزية ألف مرجع تتنوع في درجات التبسيط، لكل الفئات العمرية، وللهواة وللمتخصصين بمجال واسع من الدرجات، وتقدم بكافة أشكال الكتابة، حتى أنك سوف تجد كتبًا مصورة تشرح علوم الكوانتم والكيمياء مثلًا.
لذلك، سوف يختصر الاهتمام بإضافة اللغة الإنكليزية، كمرشح أوّل لأطفالك، مهمة صعبة تثني الكثيرين من الشباب العربي عن متابعة تعلم ما يحبون حقًا، سوف تمكنه من ولوج سريع لعالم واسع مسكون بالمصادر المجانية الاحترافية، كما سوف تعطيه اللغة الثانية التي أتقنها مبكرًا فرصة أفضل لدراسة ما يحب عبر الويب أو بالسفر فيما بعد، كما يحب.
لا تخف، يتفق متخصصو اللغويات، وعلم النفس التربوي المتعلق باللغة وتعلمها، أن الفائدة التي تعود على طفل حينما يتعلم لغتين معًا جوهرية وملموسة وسوف يكون من المؤسف تفويت فرصة كتلك، حيث لا يمكن لنا أن ننظر إلى تعلم اللغة عند الأطفال على أنه سباق يمكن أن يتأخر فيه عن أقرانه، فاكتساب اللغة أمر له آليات دماغية مختلفة.
تفتح اللغة الإضافية لطفلك نافذة مختلفة على العالم من حوله، ترفع من ثقته في ذاته، تمد من أفق عقله وتحسّن من قدراته على الإبداع، مع محيط واسع من الفرص المستقبلية، قد لا تجعلك اللغة الإضافية أكثر ذكاء، لكنها تعطيك دماغا معقدا بصورة أكبر، صحيا بشكل أكبر، وقادرا على التواصل مع آخرين بصورة أكثر سلاسة.