عند الوهلة الأولى، تبدو رواية الكاتب الجزائري محمد علاوة حاجي (1983)، "في رواية أخرى" (منشورات ANEP)، مسوّدة أوّلية نسيها كاتبها، ورأى الناشر أن يدفع بها إلى ساحة القراءة كما هي. أماكن وملامح وشخوص وأحداث في مهب الفضول، لا هي اكتملت، ولا هي بقيت ناقصة تماماً.
مقامٌ سردي اختار أن يُربك من يدخله، لعدم استقباله له بخارطة طريق جاهزة، أو بما يوحي بذلك على الأقل.
يواجه القارئ، منذ مدخله، فضاءاتٍ ونفوساً لا يحمل بعضها أسماء واضحة، كالتي اعتاد أن يتعامل معها في واقعه، بل يحمل بدلاً عن ذلك حرفَ "س"، فلا نعود ندري من منح روحه للآخر، حتى اشترك معه في الاسم، الإنسان أم المكان؟ من هنا تبدأ القراءة/ الكتابة المبنية على الأسئلة والقلق.
مكان ما، أغلب الظن أنه عمارة آيلة إلى السقوط، في مدينة ما، أغلب الظن أنها الجزائر العاصمة؛ يبحث في إنسانه عن قبضة شمس، ويطرح عليه وابلاً من علامات الاستفهام، فإذا بردّه يتفاقم، وبمنسوب حيرته يعلو، لأن إنسانه نفسه يحتاج بحدّة إلى ما يُطلب منه. من يمنح لمن؟ الكل محتاج والكل مطموع فيه، الكل خائف والكل يُخاف منه.
إنه المقام الأبرز، ضمن المقامات التي أفرزتها الأزمة الأمنية التي عرفتها الجزائر على مدار عقد من الزمن. فالنص هنا مكتوب على يد شابٍّ تفتّح وعيه داخل هذه الأزمة، حيث لم تكن الصباحات تغني، كما يقول كارل ماركس.
حالات من هذيان شيزوفيريني ولفٍّ ودوران، على مدار المتن/ المتون، ليس من باب الثرثرة التي يُمليها غياب الوعي، بل لفّاً ودوراناً أملاهما النسيان، أو لنقل أملتهما الرغبة في النسيان، فالصدمة عميقة والحمل ثقيل. حالة لا تخلق سوى جيش من الاحتمالات. حتى أنه يمكننا القول إن الاحتمال، وهو يتشظى في رأس الكاتب/ القارئ، هو بطل النص.
ليست رواية حاجي، الذي سبق له أن نشر مجموعة قصصية بعنوان "ست عيون في العتمة"، سوى قصة قصيرة، تكررت عشرات المرات، وفق ما كان ممكناً لها أن تحدث، على غير حالة حدوثها الأول. هذه الاحتمالات تشترك في قدرتها على شدّ القارئ وتوريطه في دهاليز النص، بما يجعل منه شريكاً في كتابته. هنا تتضاءل إمكانية تلخيص الرواية.
يجد الراوي "س" في المكان "س" ورقة نقدية في عز فقره إلى المال، لأنه يرغب في شراء هدية لحبيبته سمونة، بنت خالته التي يرغب في أن يلقاها ولا يلقاها. في المقهى، يلتقي صديقه أو زميله أو أخاه موحوش بعد غياب خلق اليأس من اللقاء. يختفي موحوش فجأة في الزحام، يقطع "س" الطريق إلى بيت سمونة، فتطيّره سيارة في الهواء، ليطير معه سرب من الاحتمالات المتعلّقة بمصيره، بل بما حدث له أصلاً.
تطرح هذه الرواية نفسها انتقاماً من العبث الذي بات يلفّ الحياة في الجزائر، بما هي ثمرة للواحدية في مختلف المنظومات الاجتماعية والثقافية والسياسية، من خلال التنويع على الحدث الواحد، ما يُشكّل مساءلة ساخرة لسردية تاريخية تقدّم نفسها على أنها الحدث والخيار الشرعي الوحيد، حيث يحضر الجدّ راعياً للفئران والصراصير، وقامعاً لرغبة الراوي في أن يكون كما يريد.
لم يحمل تعدّد الاحتمالات في المتن، كاتبَه على الوقوع في التمادي السردي، فالاحتمالات كلها مكتوبة بأقل التكاليف اللغوية، من غير الإخلال بالجرعة الواجبة لالتقاط الحالات والمشاهد.
وقد راهنت هذه اللغة، من خلال طابعها البصري، على جمالية الوصف لا البوح، فهي تروم تشغيل العقل، وهو يواجه جيشاً من الاحتمالات والأسئلة، ولا وقت لديه لأن يغرف من نهر القاموس. إنها بلاغة الاختزال لدى جيل جزائري مختزَل.