كثيرةٌ هي الأفلام التي تناولت حرب التحرير في الجزائر (1954 - 1962). بل إن السينما الجزائرية وُلدت أصلاً من رحم الثورة، حين أسّست "الحكومة الجزائرية المؤقّتة" في تونس، وقتها، هيئة للإنتاج السينمائي قدّمت سلسلة من الأفلام القصيرة التي أخرجها جمال شاندرلي.
كان ذلك بموازاة مدرسة للتكوين السينمائي أنشأها "جيش التحرير الوطني" سنة 1957، وعُهد بها إلى المخرج والمناضل الفرنسي المناصر للثورة، رونيه فوتيه (1928- 2015)، الذي سيقدّم بعد ذلك التاريخ بسنتين، فيلمه الشهير "الجزائر تحترق"، والذي سيعدّه المؤرّخون والنقّاد أوّل فيلم في تاريخ السينما الجزائرية.
توالت الأفلام الثوريّة بعد الاستقلال، مركّزةً على فظائع الاستعمار ونضال الشعب الجزائري من أجل استعادة حريّته، وأوّلها "فجر المعذّبين" الذي أخرجه أحمد راشدي سنة 1965، بمساعدة فوتيه نفسه.
خلال تلك الفترة، قدّمت السينما الجزائرية سلسلة من الأفلام التي صنعت عصرها الذهبي، سنوات الستينيات والسبعينيات، مثل "الليل يهاب الشمس" لمصطفى بديع و"معركة الجزائر" للإيطالي جيلو بونتيكورفو و"ريح الأوراس" و"وقائع سنين الجمر" (سعفة كان الذهبية لعام 1975) لمحمد الأخضر حمينة و"الأفيون والعصا" لأحمد راشدي و"دورية نحو الشرق" لمحمد العسكري.
ستتراجع حدّة حضور الثورة في السينما الجزائرية في منتصف السبعينيات، تحديداً مع فيلم المخرج مرزاق علواش "عمر قتلاتو" (1976) الذي كان بداية لموجة جديدة من الأفلام التي ترصد الراهن وتقترب من يوميات وهموم الإنسان الجزائري، لكنها عادت مع مطلع الألفية الجديدة، مع نزوع إلى تناول السير الذاتية لقادة الثورة التحريرية، حيث قدّم أحمد راشدي ثلاثة أفلام روائية تناولت شخصيات "مصطفى بن بولعيد" وكريم بلقاسم" و"العقيد لطفي"، وقدّم سعيد ولد خليفة فيلماً عن "أحمد زبانة".
غير أن "عملية مايو" (2015) للمخرج عكاشة تويتة سيكون أوّل فيلم روائي طويل عن شخصية أوروبية انحازت إلى قضيّة الجزائريين وشاركت في حربهم ضدّ الاستعمار الفرنسي.
قبل ذلك، كان المخرج كمال بوعلام قد قدّم فيلماً وثائقيّاً بعنوان "جزائريون غير مسلمين استشهدوا في سبيل الوطن" (2014)، سلّط فيه الضوء على مشاركة جزائريين من أصول أوروبية في حرب التحرير، مثل هنري مايو، وروز سيرونو، ولابي ألفريد، وجورج أكامبورا، وجون ماري فرانس، وفيرناند إيفتون.
يتتبّع الفيلم الأخير لعكاشة تويتة، في 120 دقيقة، سيرة المناضل الفرنسي في "الحزب الشيوعي الجزائري"، هنري مايو (1921- 1956) الذي كان ضابط صفّ في الجيش الفرنسي برتبة مرشّح، قبل أن ينشق عنه، ويقوم بتهريب شاحنة محمّلة بالأسلحة من مدينة مليانة إلى الجزائر العاصمة، ويسلّمها لمقاتلي الثورة في حيّي "بلكور" و"باينام" بالجزائر العاصمة.
يبدأ الفيلم برسم خلفيّة للمناخ العام المطبوع بتصعيد عسكري فرنسي لقمع الثورة من جهة، وبخلاف بين تيارات الحركة الوطنية الجزائرية من جهة أخرى، تدفع إلى محاولة خلق قنوات اتصال بينها من أجل توحيد النضال ضدّ المستعمر، كما حدث بين "جبهة التحرير الوطني" و"الحزب الشيوعي"، فانتهى الأمر بالتحاق عشرة من مناضلي الحزب اليساري بالثورة المسلّحة.
يقترب عكاشة تويتة من بعض التفاصيل اليومية في حياة هنري مايو (الممثّل الفرنسي مارتان بوتار) الذي يظهر، وسط ذلك المناخ، كشاب فرنسي أنيق ومثقّف يرفض فكرة الاستعمار، ويدفعه حلمه برؤية جزائر متحرّرة من الهيمنة الاستعمارية إلى اتّخاذ قرار صدم الرأي العام الفرنسي.
بلغة متقشّفة، تتتبّع الكاميرا لحظات مايو الأخيرة قبل مغادرته بيته، وتتلمّس علاقته بأمّه التي لا تُظهر موقفاً مؤيّداً أو معارضاً لقراره، لكن مجرّد السماح له بالمغادرة كان يعني موافقة ضمنيّة على خطوته وإيماناً بقضيّته. يتجلّى ذلك من خلال تعاملها البارد مع المحقّقين الفرنسيين الذين سيزورون بيتها كثيراً بعد قيام مايو بعمليته العسكرية. وهنا، يشتغل المخرج أكثر على الجانب النفسي لأمّ يعذّبها رحيل ابنها، وتؤرقها تبعات قراره.
بعد ذلك، وإلى غاية نهاية الفيلم تقريباً، تكتفي الكاميرا بنقل مشاهد تسجيلية من رحلة مايو التي بدأت بعملية تهريب الشاحنة، واستمرّت بفراره إلى منطقة الشلف ولقائه بالمناضل الفرنسي موريس لابان ومجموعة من المحاربين الجزائريّين، ثم انتهت بالقضاء عليهم في كمين فرنسي، بمساعدة عملاء جزائريين. لكن تويتة يلوذ إلى جمال الطبيعة للتخفيف من حدّة رتابة المشاهد التسجيلية، مؤثّثاً مشاهده بموسيقى طاغية وقّعها الفرنسي أدريان دينفرد.
يقدّم الفيلم مفارقة تاريخية تتلخّص في ثنائية الأوروبي الوطني والجزائري العميل، فبينما انضمّ أوروبيون إلى حرب التحرير، وقف جزائريون آخرون إلى جانب المستعمر. يمثّل "الباشاغا بوعلام"، في الفيلم، الشخصية المضادّة لهنري مايو، فالرجل الذي كان ضابطاً في الجيش الفرنسي ونال ألقاباً وأوسمة عسكرية كثيرة فيه، يشكّل نموذجاً لجزائريين حاربوا مع الفرنسيين ضدّ أبناء جلدتهم، حفاظاً على مكانتهم وامتيازاتهم التي اكتسبوها قبل الثورة.
المختلف في فيلم عكاشة تويتة أنّه ينفض الغبار عن شخصية لها بعدان هامّان: أوّلهما أنها جزائرية من أصول أوروبية، وثانيهما أنها آتية من خلفية يسارية. وهي دلالة هامة تعكس البعد الإنساني للثورة، وتؤكّد بأنها لم تكن حكراً على تيار سياسي بعينه.
في نهاية الفيلم، يقدّم تويتة مشهداً مؤثّراً. بينما يمضي "الباشاغا" سعيداً بإنجازه، بعد إلقاء القبض على مايو، يطلب ضابط فرنسي من الأخير أن يهتف باسم فرنسا كشرط لإطلاق سراحه، لكنه يرفع صوته مردّداً "تحيا الجزائر"، فيُطلق عليه وابلاً من الرصاص.
في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول تويتة إنه أراد من خلال الفيلم إعادة الاعتبار إلى من يُطلق عليهم "أصدقاء الثورة الجزائرية" الذين لم تتوقّف علاقتهم بها عند حدود العاطفة، بل تجاوزتها إلى الفعل.
ويضيف أن العمل، الذي كتبه برفقة الفرنسية نادية شار، يمثّل نتيجة خمسة وعشرين عاماً من البحث في سيرة الرجل، قادته إلى الاقتراب من شقيقته "إيفات"، بغية اكتشاف بعض الجوانب المجهولة من شخصية الرجل. مؤكّداً أن حرصه على الدقة في ما يتعلق بالوقائع التاريخية تسبّب في تأخّر فيلمه الذي كان من المفترض أن يكون جاهزاً قبل ثلاث سنوات.