لا نظن أنّ إعادة طبع كتابٍ ما يُفسّر فقط بنفاد نُسَخه من الأسواق، إنما أيضاً لوجود أفق انتظارٍ فعلي لدى جمهور القراء: يطلبون مضمونه ويتحيَّنون صدوره مجدّداً. تنطبق هذه المقولة على صدور الطبعة الثالثة، منذ شهريْن في فرنسا، لمرجع بارز عن فكر النهضة العربية؛ كتاب "الفكر العربي في عصر النهضة 1798 - 1939" الذي صدر أوّل مرة سنة 1962 باللغة الإنكليزية للمؤرّخ اللبناني ألبير حوراني (1915 - 1993) قبل أن يترجم إلى لغات عدّة منها العربية والفرنسية. فكيف نعلّل إعادة طبع هذا التأليف القديم نسبياً، وترويجه في أيامنا هذه كما لو كان وليد الساعة؟
يستعيد الكتاب سائر التيّارات الفكرية الإصلاحية التي جهدت لإنقاذ العقل العربي، في القرنيْن الماضييْن، من براثن الخرافة والتقليد، ويستعرض جهود مفكرين عقلانيين مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين ولطفي السيد وسلامة موسى وفرح أنطون وغيرهم، في تجاوز سلطة التراث والتعامل مع نصوصه بمنهجية صارمة، من خلال اعتناق الحداثة التنويرية ونشر خطابٍ علمي يسائل تاريخ الإسلام ويستنطق ما تراكم خلاله من تأويلات بشرية. فالكتاب إضاءة على أبرز تيارات الفكر الحداثي في كفاحه لترسيخ الوعي الموضوعي بالعالم ومحاربته للرؤى الخرافية التي كبّلت العرب طيلة "عصور الانحطاط".
وقد استند روّاد هذه التيارات الليبرالية إلى ثقافة أجنبية متينة واطّلاع واسع على التراث، مع وعي تام بتحدّيات العصر الحديث. فهل تبرّر فظاعات الحقبة الراهنة العودة إلى مثل هذا المُؤَلَّف؟
لعلّ أكثر ما يفسّر الرجوع لكتابٍ مضى على صياغته أكثر من نصف قرنٍ، هو البحث الدؤوب، لدى الجمهور الفرنسي، عن بذور العقلانية وأصدائها في الخطاب العربي وعن عناصر رؤية موضوعية للطبيعة والمجتمع. فلئن عاد العقل الفرنسي لهذا الكتاب، فللبحث عن ذاته من خلال لعبة المرايا، يُعيد إنتاج صورته كما رُسمت على صفحات التنوير العربي وانعكست في كتابات مفكّري النهضة، المتأثّرين بالنموذج الفرنسي، فكأنه عودٌ إلى خطاب الآخر (العربي) حول الأنا (الفرنسي)، وتحسّس لفضاء فلسفة الأنوار كما اختطَّ حدودَه العربُ.
ومن جهة ثانية، يُخفي الرجوع إلى كتاب حوراني رغبةً قوية في رفض خطاب اللاعقلانية العربي-الإسلامي، الذي يطغى الآن في المشهد الثقافي العالمي، وفيه يقترن مُتخيّل "العرب والمسلمين" بالانغلاق والحرفية والماضوية.
فكأنّ نشر تأويلات محمد عبده الذكية، وانتقادات طه حسين الجريئة، وبذور علمانية شبلي شميل وفرنسيس مَرَّاش السابقة لعصرها، إنما هو ردٌّ على من يختزل الإنتاج الفكري المعاصر في الكتابة الدينية، ودحض لحُجج من يسعى إلى الربط الآلي بين العرب والإرهاب، بين التديّن والظلامية، فالقارئ الفرنسي يودّ أن يرى شيئاً آخر غير أحاديث القتل والفظاعة، وأن يستمع إلى صوت النقد وسط زحمة صخب الرجعية.
وأما ثالث هذه الأسباب فهو الرغبة الدفينة في فهم العلاقات المنعقدة بين ضِفَّتَيْ المتوسّط، ومعرفة الطريقة التي فهم بها مفكّرو ضفّة الجنوب الحداثة، وتصوّروا الخلافة في عالم التقنيات، وكيف رأوا دور المرأة فيه، ومكانة الديمقراطية في الإسلام. إذ يعكس ترويج مثل هذا الكتاب سعياً حقيقياً لتفهّم قيم الأنا الفرنسي لدى الآخر العربي، أي كيفية تمثّلها ضمن منظومة ثقافية مختلفة.
ترجمة "الفكر العربي في عصر النهضة" هو جهدٌ فكريٌّ - منهجي لفهم التحدّيات الراهنة التي يطرحها الإسلام في فرنسا، في أيامنا هذه المشغولة بالمعارك الانتخابية حيث يحضر الإسلام في حملات المرشحين وبرامجهم. وهو دعوة ضمنية إلى إعادة تفعيل روح الأنوار التي باطنت فكر النهضة العربية وصاحبته.
ولئن كانت العودة إلى مثل هذه النصوص الكلاسيكية نفعية، فإنها حَرِيَّة بالتحليل لما فيها من حثٍّ على استنطاق أسباب فشل العقلانية في أوقات التأزّم، وما نعيشه أحدها.