عقد على "كاترينا"... تحوّلات نيو أورليانز من وحي الكارثة

27 اغسطس 2015
نسبة الفقر ازدادت لدى الأفارقة الأميركيين (ماريو تاما/Getty)
+ الخط -
عادت الحياة إلى المدينة الأميركية التي عاشت الموت قبل عقد من الزمن. موسيقى "الجاز" تصدح مجدداً من الحيّ الفرنسي على ضفاف نهر ميسيسيبي، في فسيفساء ثقافية يمتزج فيها المذاق الأوروبي بالتقاليد الكوبية ولمسة الأفارقة الأميركيين. خليط عجيب يصنع فرادة هذه المدينة. لكن بعيداً عن أضواء ليالي السهر في شارع بوربون، يبقى شرق المدينة دامساً، ولم تتغير فيه الحياة كثيراً. وبعد عشر سنوات على إعصار "كاترينا"، لا تزال نهضة مدينة نيو أورليانز في ولاية لويزيانا، تتأثر بعيوبها العرقية القديمة.

يتوافد الأميركيون، اليوم الخميس، على نيو أورليانز، وعلى رأسهم الرئيس باراك أوباما، لإحياء ذكرى إعصار "كاترينا"، على الرغم من أن المدينة تعبت من تذكيرها بالماضي، في سياق بحثها عن هويتها الجديدة، بعدما دمّر الإعصار 80 في المائة من مساحتها. في مثل هذا اليوم من عام 2005 ضرب إعصار "كاترينا" ولايات ألاباما وميسيسيبي ولويزيانا، نزح نحو 1.5 مليون شخص من منازلهم، ولم يتمكن 40 في المائة منهم من العودة إليها.

حصد الموت 1833 قتيلاً، أكثرهم في نيو أورليانز، كما بلغ حجم الخسائر المادية 108 مليارات دولار. كان الإعصار أكبر كارثة أحوال جوية في التاريخ الأميركي المعاصر، لدرجة أن الحكومة الأميركية طلبت في أبريل/نيسان 2006 من المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، استبدال اسم الإعصار من"كاترينا" إلى "كاتيا 1" في لائحة أسماء الأعاصير الأطلسية.

لا تقتصر الذكرى على الموت والدمار، بل، أيضاً، على صورة ترسّخت في الذاكرة الجماعية للأميركيين، وهي صورة الرئيس الأميركي السابق، جورج دبليو بوش، وهو ينظر إلى مخلّفات الإعصار من طائرته الرئاسية، مع ما يعنيه ذلك من ترف المراقبة.

صورة كلّفت بوش سياسياً، ووصفها في كتابه بأنها "خطأ كبير". صورة وزّعها البيت الأبيض في وقتٍ كان يشعر فيه ضحايا الإعصار أن الحكومات المحلية والفيدرالية خذلتهم، لا سيما في سرعة الإنقاذ، وفي تضارب الصلاحيات، وفي الإجراءات التي اتخذتها الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ.

اقرأ أيضاً: عودة "الجاز" الضالّ.. وفاءً لسود أميركا

كما انهارت بسرعة السدود، التي كان يُفترض بها استيعاب الإعصار، فيما اعتُبر أسوأ كارثة هندسة مدنية في تاريخ الولايات المتحدة. ودان القضاء فيلق المهندسين في الجيش الأميركي على إخفاقاته في بناء السدود، من دون أن يتّرتب عليه دفع مبالغ للمتضررين، بسبب الحصانة السيادية التي تتمتع بها الوكالات الفيدرالية، ضمن قانون الفيضانات الأميركي الذي أُقرّ عام 1928.

شكّل الإعصار صدمة لهوية المدينة، أيضاً، ليطرح السؤال نفسه غداة تدمير كل شيء: "هل نعيد إحياء نيو أورليانز كما كانت أو نستغل الفرصة ونتخيل مدينة أخرى؟". قبل الإعصار كانت نيو أورليانز تواجه تحديات اقتصادية وانقسامات عرقية، فضلاً عن ارتفاع نسبة الجرائم فيها في ظلّ بنية تحتية ضعيفة، ونقص في تمويل المدارس الرسمية. التحدي كان في خطة إعمار جديدة، تحافظ على روح المدينة، الذي كان ولا يزال، يستقطب السياح من كل أنحاء الولايات المتحدة والعالم.

التحول الأبرز في إعصار "كاترينا"، تمحور حول إعادة ترتيب أولويات المجتمع المدني الأميركي، وبداية تركيزه على الاحتياجات الداخلية في الولايات المتحدة بموازاة مساعدة المحتاجين حول العالم. ونتيجة ذلك تدفق الكثير من الشباب الأميركي إلى نيو أورليانز للمساعدة في جهود الإنقاذ، وبقي منهم حوالي 30 ألف شاب، بعد شرائهم منازل بأسعار رخيصة، ليستقروا في المدينة ويغيّروا ديمغرافيتها.

أما النجاح الأبرز بعد الإعصار، فكان قرار المدينة بـ"عدم استعادة المدارس الرسمية المتعثرة، بل استبدالها بمدارس مستقلّة، قادرة على تحسين مستوى أدائها". وتشير الأرقام إلى أن 92 في المائة من طلاب نيو أورليانز يتعلمون اليوم في مدارس مستقلّة، كما ارتفعت نسبة التخرّج من المدارس من 54 في المائة قبل الإعصار إلى 73 في المائة اليوم. وخصّصت الحكومة الفدرالية مبلغ 71 مليار دولار، لبناء المدارس والمستشفيات وغيرها من المرافق، في جنوب ولاية لويزيانا.

اقتصادياً، بدأت الشركات الصغيرة تزدهر في المدينة، كما الفنادق التي بلغت نسبة أرباحها 1.37 مليار دولار العام الماضي، ووفّرت أكثر من 14 ألف فرصة عمل منذ عام 2010. حصل كل هذا في الشقّ "الجميل" من المدينة، لكن على الضفة الأخرى، لم يتمكن 100 ألف شخص من الأفارقة الأميركيين من العودة إلى ديارهم بعد الإعصار، ومن عاد يعاني من الفقر والبطالة ومن ارتفاع معدل الجريمة.

وتذكر مجلة "سميثسونيان" في هذا الصدد، أن "40 حياً فقط من أصل 72 في نيو أورليانز استعاد عافيته وبنسبة 90 في المائة"، ما يُشير إلى أن تعافي المدينة كان متفاوتاً ولم يشمل الجميع. كما تُفيد الإحصاءات أن نسبة الأفارقة الأميركيين في المدينة، انخفضت من 66 في المائة في عام 2005 إلى 59 في المائة في عام 2013. وقد حلّ مكان الأفارقة الأميركيين، الذين لم يعودوا إلى ديارهم، جيل من الشباب الأبيض الذي يملك رؤية مغايرة لما كانت عليه المدينة.

وكان لافتاً في هذا السياق استطلاع للرأي، نشرته جامعة لويزيانا، هذا الأسبوع، يعبّر عن الواقع في المدينة، ويعكس مزاج الأفارقة الأميركيين، الذين كانوا يسكنون المناطق الشرقية في نيو أورليانز، حيث ضرب الإعصار بقوة. وقد ذكر 41 في المائة من سكان نيو أورليانز البيض، أن حياتهم أصبحت أفضل بعد الإعصار، في مقابل 20 في المائة فقط من الأفارقة الأميركيين. كما تشير دراسة للرابطة القومية الحضرية، أن الفجوة في معدل المدخول بين الأفارقة الأميركيين والبيض ارتفعت بنسبة 18 في المائة بعد الإعصار، في وقت ازداد فيه عدد أطفال الأفارقة الأميركيين الفقراء من 44 إلى 51 في المائة. وكان رئيس شرطة نيو أورليانز مايكل هاريسون، قد ذكر مطلع الأسبوع، أن "السبب الرئيسي وراء أعمال العنف في المدينة هو ارتفاع معدل البطالة بين الأفارقة الأميركيين الشباب".

اقرأ أيضاً أميركا: العدالة السوداء

المساهمون