عقدة الاعتراف بأدب العرب

24 مارس 2015
البرازيل ضيف شرف المعرض للمرة الثانية
+ الخط -
عقدت بين العشرين والثالث والعشرين من شهر آذار/ مارس الدورة الخامسة والثلاثين لمعرض باريس الدولي للكتاب. تستقبل هذه التظاهرة الثقافية سنويًا ما يربو عن ألف ومئتي ناشر يمثّلون خمسة وعشرين دولة وأكثر من أربعة آلاف وخمسمئة كاتب. فيما تبلغ مجمل مساحة الأجنحة خمسة وخمسين ألف متر مربع. ويستقطب المعرض سنويًا حوالي مئتي ألف زائر. فقد بلغ عدد زوّاره العام الماضي مئة وثمانية وتسعين ألف زائر. ويعدّ معرض باريس الدولي للكتاب، إلى جانب معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، أحد أهمّ الملتقيات الثقافية والفكرية والفنية المهمة، فضلًا عن أنه يتصدّر قائمة المعارض الفرنكوفونية الكبرى التي تعقد في كلّ من مونتريال وبيروت، وكذلك المعرض الدولي للكتاب والصحافة بجنيف.
وقد جرت العادة أن يدشّن رئيس الجمهورية برفقة بعض وزراء الحكومة، في مقدّمهم وزير الثقافة الأسبق جاك لانغ، المعرض قبل يوم واحد من الافتتاح، بحضور شخصيات سياسية وأدبية وفكرية فرنسية وعالمية. ومن تقاليده أيضًا دعوة آداب بعينها كضيف شرف لكل دورة.
على مدى الأربعة والثلاثين عامًا الماضية، استضاف المعرض آداب عدّة دول، من دول أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وأوروبا، منها: الكيبيك، وروسيا، والولايات المتحدة الأميركية، والمكسيك، والأرجنتين، والبرتغال، والصين، وبلجيكا، وإسبانيا.
بيد أن المعرض لم يسلم من تبعات الأزمة الاقتصادية، ولا من تداعيات الطفرة الرقمية، خصوصًا مع ظهور الكتاب الرقمي ونظام القراءة على الأجهزة اللوحية، فضلًا عن نزوع إمبراطورية أمازون إلى "قتل" الكتاب الكلاسيكي. وقد وجدت هذه التداعيات ترجمتها على مستوى انسحاب بعض كبار الناشرين الفرنسيين من المعرض لأسباب تتعلّق بالكلفة العالية والأرباح الهزيلة، إذ تبلغ كلفة المتر المربع الواحد مئتين وخمسين يورو، ويضطر بعض الناشرين إلى دفع كلفة تقارب الاثنين وخمسين ألف يورو من أجل المشاركة فيه. هذا ما كان جواب دور نشر فرنسية عديدة، مثل: دار أوديل جاكوب، ودور كبرى من مجموعة هاشيت: غراسي ستوك، وكالمان ليفي وجان كلود لاتيس.علاوة على أن المعرض يبدو كأنه قد تحوّل إلى متجر كبيرٍ أو إلى "مول" يرتاده الزوّار لالتقاط صور سيلفي مع بعض المشاهير من الكتّاب. وربما لم يعد يسلم من هذه "الأزمة الخانقة" إلا كتّاب وروائيو الـ"بيست سيلر" الذين تنتظم أمامهم الطوابير. وانتظمت الطوابير في الدورة الأخيرة حول كتّاب إسلاموفوبيين صنعوا الحدث الثقافي في فرنسا أخيرًا مثل: إيريك زمور وميشال ويلبيك. وفي النتيجة، حضر الإسلام والقرآن الكريم بقوّة في قوائم الناشرين، وخاصّة أن المصحف الكريم بترجماته التسع عشرة يحظى بإقبال كبير لدى القرّاء الفرنسيين.
آداب البرازيل هي ضيف شرف دورة هذا العام، وقد وُجّهت الدعوة لأربعة وثمانين كاتبًا ومبدعًا يمثّلون أجيالًا مختلفة. المفارقة أن هذه هي المرّة الثانية التي تحلّ فيها آداب البرازيل ضيف شرف في المعرض. فقد دُعيت للمرّة الأولى في عام 1998 وحضر وقتها ستة وثلاثون كاتبًا، منهم: خورخي أمادو، وبالوما آمادو، وباولو كويهلو، وكارلوس نجار، ورضوان نصار. أمّا في الدورة الحالية، فقد "اختفى" من قائمة الكتّاب المدعويين الكتّاب البرازيليون ذوو الأصل اللبناني، باستثناء ميلتون حاطوم، مترجم غوستاف فلوبير وإدوار سعيد إلى البرتغالية. ومن بين الندوات الأدبية لهذه الدورة: "أي برازيل لأية رواية؟"، و"الأمازوني: أساطير وأصوات هندية"، و"التاريخ، العنف ومستقبل الأدب البرازيلي".
دأب المعرض على استقبال ناشرين عرب، وبشكل خاص المغاربيين منهم، بحكم إصداراتهم لنتاج كتّاب عرب فرنكوفونيين. ولم يغب كتّاب اللغة العربية هذا العام عن قوائم هؤلاء الناشرين. بيد أن حضورهم مقارنة مع كتّاب الفرنكوفونية، كاد أن يكون رمزيًا.
وبسبب الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، وواقع الكلفة الباهظة لنقل الكتب واستئجار الأجنحة وضعف المردود المادي، فقد عزف العديد من الناشرين عن المشاركة في المعرض، الأمر الذي أفسح المجال لبعض المؤسّسات الرسمية التابعة للدولة لحضور هذه المعارض وعرض منتوجات لا تمثّل الإبداع والثقافة العربيتين في شيء، بحيث عرضت كتب للدعاية السياحية أو كرّاسات تربوية وجامعية أو كتب دينية. ما يحتّم التمييز بين دور النشر المستقلّة وبين المؤسسات الرسّمية مثل: سفارة سلطنة عمان، ووزارة التعليم العالي للمملكة السعودية، ووزارة الثقافة اللبنانية ووزارة الثقافية المغربية وغيرها.
وفضلًا عن الانتقادات الموّجهة لمعرض باريس في ما يخصّ الكلفة الباهظة، وتشجيع "عقلية" الـ"بيست سيلر" والنجومية، وكذلك عقلية "المول"، فإن المشرفين على المعرض ما زالوا، على ما يبدو، تحت سيطرة المركزية السياسية، بل الإيديولوجية الغربية. من هنا السؤال: ألا تستحقّ الآداب العربية، بتاريخها وأعلامها، أن تكون ضيف شرف معرض الكتاب في باريس؟ هل الآداب الإسرائيلية أكثر عراقةً أو حضورًا من الآداب العربية؟
في عام 2008 كانت إسرائيل ضيف شرف المعرض، الذي دشّنه، برفقة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يومها، الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز. وقد نُظمت دعوة إسرائيل حينها بمناسبة مرور ستين عامًا على قيام الدولة العبرية. وقد أدّى هذا الاختيار، كما هو معروف، إلى عزوف العديد من الناشرين العرب عن المشاركة في المعرض سنتها. فلماذا يتمّ رفض اقتراح أن تكون الآداب العربية ضيف شرف، أو يتمّ تجاهله؟
ترى نادية السالمي، مديرة دار نشر يوماد، ومقرّها الرباط، أن المشرفين على معرض باريس يتعاملون باحتقار مع الناشرين العرب: "المطلوب من المشرفين على معرض الكتاب الدولي في باريس، قبل توجيه الدعوة لبلد عربي، أن يتعاملوا باحترام معه، بل ومع كلّ البلدان العربية. فدول المغرب العربي، أي تونس والجزائر والمغرب، تحضر بقوّة في كلّ عام. بيد أن المكان المخصّص لأجنحتها بائسٌ إلى حدّ كبير، حيث تُقترح عليها دائمًا الأجنحة المتواجدة في الخلف قرب دورات المياه، أو تلك القريبة من مطاعم الوجبات السريعة". وهذا "الاستقبال نفسه" "يحظى" به أيضًا الناشرون المغاربة في صالون أدب الشباب الذي يقام بمونتروي.
ويبدو الأمر كما لو أنه ثمّة رغبة في حجب هذه الدول، رغم أن الناشرين المغاربة يدفعون الكلفة التي يدفعها الجميع للمتر المربع. ورغم أن ترجمات الأعمال الأدبية والفكرية من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية، قد عرفت قفزة نوعية، فنسبة الترجمة خلال مدة خمس سنوات ارتفعت بمقدار 13 بالمئة، الأمر الذي يعني عمليًا أن الآداب العربية حلّت في عام 2013 في المرتبة الثالثة بعد الترجمات من اللغتين الألمانية والإنكليزية. أمّا في عام 2014، فقد احتلّت آداب لغة الضاد المرتبة الثانية بعد اللغات الإسكندنافية.
وعند سؤال "ملحق الثقافة" عن دورة عام 2008 للمعرض، وملابساتها، أشارت السالمي إلى أنه في ذلك العام بالذات قدّم المغرب، ممثلًا بوزارة ثقافته، ترشيحًا ليكون ضيف شرف المعرض، بيد أن النقابة الوطنية للنشر، أي الهيئة المشرفة على تنظيم المعرض، والمؤلّفة من كبريات دور النشر الفرنسية، رفضت الترشيح وفضّلت إسرائيل، كما لو أن عقابًا مخفيًا يطال العرب. وهي تظن أن ثمة "عقدة في فرنسا اسمها إسرائيل، كما لو أن بلد "حقوق الإنسان" يسعى باستمرار للتكفير عن ذنوبه تجاه اليهود وإسرائيل، وان هذا "الوعي الشقي" متجذّر في اللاوعي الفرنسي. ففرنسا تتعامل مع إسرائيل كما لو أنها من "المقدّس". من هنا فإن استضافتها في دورة عام 2008، كضيف شرف، يعدّ اعترافًا بثقافة إسرائيل وتاريخها على حساب ثقافات أخرى أكثر عراقة وحضورًا. وأضافت أنه طُرح في عام 2013 المغرب ليكون ضيف شرف، ولم ينجح الأمر، وأن المغرب لم يستسلم، وقدّم أوراقه للترشح عن دورة عام 2016.
ولم تفتها ملاحظة غياب أي نوع من أنواع التنسيق بين الدول العربية والناشرين العرب المشاركين في المعرض.
كل هذا، قد يقود إلى القول بوجود عوائق كبرى، تحول دون دعوة الآداب العربية كضيف شرف في معرض باريس. ويبدو أن هذه العوائق سياسية وتاريخية وأيديولوجية ونفسية، طالما هي لا تتعلّق بواقع الترجمة أو المشاركة والحضور في المعرض. ويبدو أن ثمّة ذهنية فرنسية تظنّ أن دعوة الآداب العربية ضيف شرف، له معنى يقول بإضفاء الشرعية على الإبداع العربي، وهو ما تبدو فرنسا غير راغبة به، أو لعلّها ليست مستعدّة له.
المساهمون