ومع أنه لم يكن غريباً عن المجتمع التركي منذ دخول الجمهورية في التعددية الحزبية في الخمسينات من القرن الماضي، لكن الاستقطاب السياسي ارتفع بشكل ملحوظ مع اقتراب الانتخابات وبعد العمليتين اللتين نفذهما تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في تركيا، سواء في سوروج أو في العاصمة أنقرة، ولكن هذه المرة من باب الخلاف على السياسة الخارجية التركية وبالذات فيما يخص حزب "الاتحاد الديمقراطي" (الجناح السوري للعمال الكردستاني).
ليست المرة الأولى الذي ينجح فيها "العمال الكردستاني" بتحويل مناطق الإدارة الذاتية التي أعلن عنها جناحه في سورية إلى شأن داخلي تركي، فقد كانت البداية في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2013، عندما دعا حزب "الشعوب الديمقراطي" إلى احتجاجات في مختلف أنحاء البلاد لمساندة مدينة عين العرب خلال الهجمة الشرسة التي كانت تتعرض لها من قبل "داعش"، بما رافقها من اشتباكات بين "العمال الكردستاني" وحزب "الدعوة الحرة" (كردي سلفي) وأسفرت عن مقتل أربعين شخصاً، وأيضاً عمليات تخريب واسعة في المدن ذات الغالبية الكردية.
في المقابل، يستنفر "العدالة والتنمية" جهوده، قبل أيام من إجراء الانتخابات، لجذب الأصوات التي خسرها في الانتخابات السابقة، سواء تلك التي ذهبت لـ"الشعوب الديمقراطي" (ذي الغالبية الكردية)، أو التي ذهبت لحزب "الحركة القومية". وفي الوقت الذي تؤكد فيه دراسات واستطلاعات الرأي بأن إحداث خرق باستعادة واسعة للأصوات الكردية يبدو أمراً صعباً، خصوصاً في ظل الاشتباكات بين الحكومة التركية و"العمال الكردستاني"، ولأن الوقت الفاصل بين إجراء الانتخابات الحالية وسابقتها كان غير كافٍ لإحداث تغيرات نوعية في ميل الأصوات الكردية، بدأ "العدالة والتنمية" بالتركيز بشكل أكبر على جذب أصوات القوميين الأتراك، خصوصاً في ظل الأزمة الواضحة التي يعاني منها حزب "الحركة القومية"، مما استوجب رفعاً كبيراً للنَفَس القومي التركي.
وفي هذا السياق، ولجذب المزيد من أصوات القوميين الأتراك، فجّر رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، مفاجأة بدت غريبة في توقيتها، عندما أعلن بأن القوات المسلحة التركية وجّهت ضربات عسكرية لحزب "الاتحاد الديمقراطي" مرتين خلال الفترة الماضية، ليعود وزير الخارجية التركية فريدون سينير أوغلو ويوضح حيثيات الأمر في مقابلة مع تلفزيون "سي إن إن"، مشيراً إلى أن الضربات وُجّهت عندما حاول "الاتحاد الديمقراطي" عبور نهر الفرات غرباً، أي نحو المناطق التي كانت تنوي أنقرة تحويلها إلى منطقة آمنة.
اقرأ أيضاً: تركيا: "داعش" نفذ تفجير أنقرة لتخريب الانتخابات
وعلى الرغم من محاولاته العديدة للابتعاد عن "العمال الكردستاني" ورسم مسافة واضحة في الخط السياسي معه، إلا أن حزب "الشعوب الديمقراطي"، ومنذ عودة الاشتباكات بين "العمال الكردستاني" والجيش التركي، بدأ بتبني سياسة تتمحور على الدعوة إلى السلام، مع توجيه اتهامات واضحة للحكومة والجيش التركيين بمسؤولية العنف، مع المواربة في توجيه الانتقاد لـ"العمال الكردستاني"، وذلك لعدم إغضاب تيار الكردستاني في الحزب. ولكن بعد الهجوم الانتحاري الذي شنّه "داعش" في أنقرة، ولمواجهة محاولات "العدالة والتنمية" استعادة الأصوات الكردية التي خسرها، تبنى "الشعوب الديمقراطي" خطاب "الكردستاني" بالكامل، وبدل أن يكون الهجوم أمراً طبيعياً في سياق الحرب المشتعلة بين "داعش" وكل من "الاتحاد الديمقراطي" و"العمال الكردستاني" في مختلف الجبهات السورية والعراقية، وبدل أن يكون الهجوم على "الشعوب الديمقراطي" أمراً طبيعياً في استراتيجية "الإرهاب" القائمة على بث الهلع والخوف في صفوف المجتمعات عبر استهداف خاصرتها الأضعف، اتهم رئيس حزب "الشعوب الديمقراطي" صلاح الدين دميرتاش، الدولة التركية بالوقوف وراء الهجوم، على الرغم من أن الهجوم من الناحية السياسية لا يصب في مصلحة "العدالة والتنمية"، بل كان ضربة قوية له على أعتاب الانتخابات.
استغل دميرتاش تصريحات داود أوغلو حول "الاتحاد الديمقراطي"، وعلى الرغم من أن تركيا تدعم المجلس الوطني الكردي السوري الموالي لأربيل، صعّد دميرتاش من الموقف القومي أكثر، معتبراً هذه التصريحات إعلان حرب على أكراد سورية جميعاً، قائلاً "إن الحكومة غير راضية على ما يبدو من الصراع الحالي في البلاد (بين الكردستاني وقوات الأمن)، بل وتبدو حريصة على إعلان الحرب على المناطق الكردية السورية أيضاً"، مضيفاً أن "الاتحاد الديمقراطي، لم يُشكّل أي تهديد لتركيا، وبينما يمد الأكراد السوريون أيدي الأخوة والسلام لتركيا، يقوم داود أوغلو باعتبار الاتحاد الديمقراطي تهديداً بدل أن يعتبر داعش تهديداً، إنه لعار عليه".
رد داود أوغلو على تصريحات دميرتاش بتصعيد أكبر، قائلاً "إن الحكومة لن تسمح ببقاء أي عناصر معادية لها على قيد الحياة على حدودها"، مشدداً على أنه لم يطلق قط أي تصريح "يشرعن" فيه نشاطات "داعش"، قائلاً: "لم يسبق لي التغاضي قط عن أي طريقة تضفي الشرعية على داعش، نحن نضرب العمال الكردستاني وداعش، وإن تطلب الأمر، سنضرب الاتحاد الديمقراطي أيضاً"، مضيفاً أنه "على دميرتاش الابتعاد عن هذه المكائد، نحن نعلم ما يحدث على الأرض، وسنضرب أي رأس يرتفع ليضرب تركيا".
كل هذه المعطيات تدل على أن التحريض القومي لم يعد حكراً على حزب "الحركة القومية" المعارض لعملية السلام مع "العمال الكردستاني"، والذي صعّد رئيسه دولت بهجلي خطابه أخيراً، بالقول: "لا يكفي أن يتم وضع عملية السلام في الثلاجة، بل يجب قطع التيار الكهربائي عنها أيضاً"، في إشارة إلى تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي أكد خلالها أن الحكومة لم تتخلَ عن العملية بل جمّدتها. وبات التصعيد القومي طاغياً على هذه الانتخابات، حتى أن حزب "الشعب الجمهوري" (أكبر أحزاب المعارضة) الذي حاول في الفترة السابقة اتخاذ موقف وسطي بين "الشعوب الديمقراطي" و"العدالة والتنمية"، حاول استثمار الورقة القومية التركية، عندما كشف عدداً من الأوراق، هي عبارة عن اتفاق بين الحكومة التركية و"العمال الكردستاني" منذ عام 2009 في العاصمة النرويجية أوسلو، متهماً الحكومة بخداع الشعب بإعلانها الحرب على "الإرهاب"، بينما كانت تتعامل معه لفترات طويلة وتُقدّم له الوعود، التي طالب الحكومة بالكشف عنها.
اقرأ أيضاً: استنفار "العدالة والتنمية" عشية الانتخابات التركية المصيرية