أولاً: لا يمكن ربط الشعبوية بناخبين محدّدين، أو مواصفات سوسيونفسية أو "أسلوب سياسي". إنها ليست أيديولوجيا شاملة (بالمعنى المحايد والوصفي المحض) مثل الاشتراكية، الليبرالية أو أيضاً النيوليبرالية والأيديولوجيا المحافظة (يتم الحديث خطأ عن قرابة بين الأيديولوجية المحافظة والشعبوية، لأنها هي الأخرى يصعب ضبطها على مستوى المفهوم). لكنّ للشعبوية منطقاً خاصاً ومحدّداً: إن الشعبويين ليسوا معادين للنخبة فحسب، ولكنهم معادون للتعدّد بشكل مبدئي. إن ادعاءهم الدائم يقول: نحن ـ ونحن فقط ـ من يمثل الشعب الحقيقي، ومواقفهم السياسية تنتهي مباشرة إلى تمييز أخلاقي بين الخطأ والصواب، وليس يميناً ويسارا فقطً. فلا شعبوية بدون استقطاب أخلاقي.
ثانياً: إن الديمقراطية والتمثيل فكرتان مختلفتان. فالتمثيل في ذاته ليس مبدأ ديمقراطياً. والشعبويون ليسوا أعداء لمبدأ التمثيل. لكنهم حين يجلسون على كراسي المعارضة، لا يبرحون يؤكدون بأن الشعب ممثل من طرف النخب المزيّفة والفاسدة.
ثالثاً: ينتج بسرعة عن النقد الموجّه إلى الممثلين المزيفين، نقد راديكالي للمؤسسات الديمقراطية. ولأن الشعبويين يمثلون الأغلبية الصامتة (أو بالأحرى كل الشعب)، فإن المؤسسات لا ريب تعاني من خلل ما، وإلا لوصل الشعبويون منذ زمن إلى السلطة.
رابعاً: إن الشعبويين يفهمون علاقة التمثيل بمعنى تفويض جبري. ووفقاً لذلك يتوجّب ببساطة تنزيل إرادة الشعب على أرض الواقع. إن هذا التصوّر عن تمثيل إرادة الشعب خاطئ، لأنه لا توجد هذه الإرادة الفردية للشعب المتناسقة على أرض الواقع (ولا يمكن البتة تحديدها قبلياً)، ولهذا ينحرف الشعبويون إلى تمثيل رمزي للشعب. إذ يتوجّب في رأيهم استخراج الشعب الحقيقي من عموم المواطنين. إن ذلك يعني بشكل محسوس: فقط المجدّين، شعب شافيز، أو القوميين المسيحيين إلخ.. من يمثلون الشعب الحقيقي.
خامساً: إن الشعبويين يستعملون هذا التصوّر الرمزي عن الشعب ضد المؤسسات القائمة. إن تصوّرهم هذا عن شعب حقيقي وخالص أخلاقياً، لا يمكن تفنيده على المستوى الواقعي.
سادساً: إن الشعبويين ليسوا أحزاب رفض أو أحزاباً احتجاجية، ولهذا لا يمكن الحكم عليهم بأنهم غير قادرين على إدارة دفّة السلطة. بل إنهم يحكمون في توافق مع المنطق الداخلي للشعبوية: هم، وفقط هم من يمثّل الشعب الحقيقي، ولهذا لا يمكن وجود معارضة شرعية لهم.
سابعاً: وهذا يعني بشكل عمليّ سيطرة الشعبويين على السلطة، وإضعاف الضوابط والتوازنات أو تعطيلها بالمرة، نهج سياسة الزبونية ونزع المصداقية عن كل معارضة، سواء في المجتمع المدني أو الإعلام. وهم يقولون بذلك اعتماداً على شرعنة ذاتية أخلاقية واضحة: في الديمقراطية، يتوجّب على الشعب أن يمتلك دولته، والأعمال الخيرية يجب أن تعرف طريقها إلى الشعب الحقيقي، وليس إلى من لا ينتمي إليه، أما الأصوات المعارضة في الإعلام والمجتمع المدني فهي أصوات للقوى الأجنبية، وهذا كله يتناقض مع المبادئ الأصلية للديمقراطية.
ثامناً: إن ميل الليبراليين إلى إقصاء المجموعات الشعبوية المعارضة، لا يخلو من إشكالية، لأنهم عبر ذلك يفعلون الشيء نفسه الذي يرمون الشعبويين به. إنهم يقصونهم باسم الأخلاق، تماماً كما يقصي الشعبويون بعض المواطنين أخلاقياً من الشعب الحقيقي والمنسجم. وبدلاً من نزع المصداقية الأخلاقية عن الشعبويين، يتوجب على الليبراليين أولاً مناقشتهم، وعلى الأقل من أجل الاقتراب من الحقائق أكثر. أما في الحالات التي يقوم فيها الشعبويون بممارسة التحريض أو استعمال العنف، فإنه على القانون الجنائي أن يتدخل. وفي كل الحالات الأخرى، وحتى إذا كان الأمر منفراً، يتوجّب أخذ المطالب، وتلك المخاوف المزعومة للمواطنين، بجدية.
تاسعاً: إلى جانب هذا التناقض الذاتي الذي يقوم على إقصاء من يطلب إقصاء الآخرين، نقف على ضعف أساسي في الموقف الديمقراطي ـ الليبرالي: إنه يريد إلحاق الجميع بالكل! لكن ما دامت هناك شعوب ودول مختلفة، ومؤسسات تحمل معنى معيارياً وليس فقط تطبيقياً للناس، فإن ذلك لن يكون بالأمر المقنع جداً. إن الليبراليين يفترضون أن من يملك جواز سفر بلد ما أو يعيش منذ فترة طويلة في بلد ما، فهو ينتمي إليه. وهكذا يبدو معيار الانتماء لدى الليبراليين ـ الديمقراطيين في النهاية مسألة صدفة إمبيريقية، في حين أن الشعبويين يقدّمون جوهراً أخلاقياً (مثلاً في صيغة: "وحده من يعمل، ينتمي إلى الشعب!"). وهكذا سيقف الديمقراطيون الليبراليون بعكس الشعبويين أمام إحدى أصعب المفارقات الفلسفية للديمقراطية: إن أسئلة الإدماج الديمقراطي لا يمكن حلها ديمقراطياً. لأن من يقول بأن حدود الديمقراطية يحدّدها الشعب، يتوجّب عليه أولاً أن يحدّد من ينتمي إلى هذا الشعب. وذاك هو السؤال المطروح.
هل يعاني الديمقراطيون الليبراليون هنا من التيهان، في ما يتعلق بدعم معيارَي للديمقراطية وتقديم حجج ضد الشعبويين؟ ليس بالضرورة. ذلك أن التصوّر الذي يقول بضرورة وجود معيار نهائي للانتماء السياسي مرة وإلى الأبد، هو في حد ذاته إشكالي. فلا ديمقراطية تنبع من اللاشيء، وكل الديمقراطية تقوم على صدف تاريخية وعلاوة على ذلك على الكثير من أشكال الظلم.
لكن الديمقراطية هي أيضا قضية إجراء، في ظله يتم تصحيح أشكال الظلم ويمكن من خلاله التفاوض حول معايير جديدة للانتماء. وهكذا لن يظهر الشعب إلا في صيغة الجمع، إنه من طبيعة "بوليفونية"، بدلاً من الحديث بصوت واحد للشعب، بل الأكثر من ذلك يمكن القول: إن الشعب يتحوّل إلى صيرورة. وطبعاً ليس هناك ضمان، بأن هذه الصيرورات ستمضي دائما في الطريق الصحيح. ومحقّ مارتن لوثر كينغ حين عبر مرة بأن طريق التحقق الأخلاقي طويل، لكنه يتحرك باتجاه العدالة. لربما الأمر على هذه الحال، ولربما لا. فالأمر يتعلق بمواطنين مستعدين للعمل من أجل العدالة والتعبير في وضوح بأن كلمة "نحن الشعب" إقصائية. ولكن في الآن نفسه يتوجّب على هؤلاء المواطنين أن يوضحوا لماذا من غير العدل أيضا إقصاء الشعبويين.
عاشراً: هل يوجد اليوم عدد كبير من الشعبويين في أوروبا؟ نعم. وهل يتم توسيع مفهوم الشعبوية من طرف النخب الأوروبية (بوعي أو من دونه)، من أجل تجاهل النقد غير المرغوب فيه؟ أجل، وحتى على هذا السؤال يتوجّب الجواب بنعم. وسنقف على أن بعض السياسيين والأحزاب والحركات تغيّر مواقفها بين الديمقراطية والشعبوية. إن نقد الشعبوي الإيطالي بيبي غريللو للأحزاب في بلاده، لا يمكن إلا موافقته عليه في العديد من النقاط. لكنه حين يدّعي بأن حركته تستحق مائة في المائة من مقاعد البرلمان، فإنه لا ريب يتصرّف مثل شعبوي. ولذلك فإن الشعبوية ظاهرة تدفعنا للتفكير في ما نريده فعلاً من الديمقراطية، وما الذي نريد تحقيقه عبرها، وما هي تلك الأوهام التي يتوّجب على الديمقراطيين المتنورين الاستغناء عنها. ما استمرينا بالحياة في ظل ديمقراطية تمثيلية، ستظل الشعبوية. إن النظام التمثيلي ليس ديمقراطياً في ذاته (وتاريخياً هو نظام سابق على الديمقراطية).
إن ديمقراطية ناجحة تسمح لكل المطالب الشعبية بتمثيل نفسها، حتى خارج الدولةـ الأمة. ومن يطلب مثلاً سياسة أوروبية مختلفة، أقل خضوعاً للسياسات الوطنية، يتوجّب عليه العمل من أجل بناء علاقات تمثيلية مختلفة داخل أوروبا، فلا يكون ممثلاً وبشكل أولي من طرف حكومته القومية، ولكن مثلاً من مفوضية أوروبية منتخبة أو من برلمان أوروبي بصلاحيات موسعة.
إنه من غير الممكن تصوير خطوط الصراع داخل مجتمع بشكل موضوعي صحيح، لكن صيرورة سياسية سليمة إلى حد ما، ستسمح بترجمة التعدّد المجتمعي في النظام السياسي. لكن التعدّدية ليست كلّا ثابتاً، فهي نتاج الحركية الاجتماعية بين مواطنين، يعترفون ببعضهم بعضاً كأحرار ومتساوين، لكنّهم في مصالحهم وهوياتهم مختلفون.
إن ديمقراطياتنا ليست شبيهة بالديمقراطيات اليونانية القديمة، والتي كانت تعني اشتراك أناس متساوين ودون وساطة أو نظام تمثيلي، في حكم المدينة. ولكن، وحتى إذا لم نتمكن في ظل الديمقراطية التمثيلية من تحقيق شكل أمثل للأوتونوميا الجمعية، فإن ذلك لا يعني بأنها لم تعد صالحة، خصوصاً أننا لا نملك لحد الآن نظاماً أفضل. لكن يتوجب تحديداً ألا نترك الساحة فارغة للشعبويين، الذي يدّعون بأنهم وحدهم القادرون على الوفاء بالوعد الأصلي للديمقراطية والمتمثل في تحقيق الأوتونوميا الجمعية. إنهم عاجزون عن ذلك.
*من كتاب "ما الشعبوية؟" الذي ستصدر ترجمته العربية قريباً عن "منتدى العلاقات العربية والدولية" في الدوحة.
** ترجمة عن الألمانية: رشيد بوطيب