في إبريل/نيسان الماضي، أراد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تسجيل نقطة لصالحه على حساب المتحدثين بلسان نظامه وأجهزته في وسائل الإعلام، فأوقف الهجوم الذي شنه عدد من الإعلاميين والمسؤولين على صحيفة "المصري اليوم" الخاصة، ومالكها صلاح دياب، ومنعه من كتابة مقاله باسم مستعار "نيوتن"، على خلفية انتقاده لتعامل الدولة مع سيناء، وحرمان المستثمرين من ضخ أموالهم فيها، واحتكار جهود تنميتها بدعوى الحفاظ على الأمن القومي.
فاجأ السيسي الرأي العام، خلال حضوره افتتاح بعض مشاريعه في نطاق محافظة الإسماعيلية آنذاك، بنفي تهمة "عدم الوطنية" و"العمالة" التي وجهت لدياب، معتبراً أنه وجه انتقادات من أرضية وطنية تستهدف الصالح العام. وأطلق عدة تصريحات تزعم ترحيبه بمساهمة رأس المال الوطني في مشاريع سيناء، وجميع المشاريع الكبرى التي ينفذها ويديرها الجيش. وقال وقتها "أتمنى على رجال الأعمال أن يكونوا موجودين في مناطق للزراعة، ومناطق للاستزراع السمكي، ومناطق للمحاجر والرخام وحاجات كتير هتطرح. مش بقول لهم تعالوا اعملوها، لا ده تعالوا شاركوا معانا فيها، هي اتعملت الحمد لله. لو إنتوا عايزين تقولوا إنكم مهتمين بتعمير سيناء، أنا مش بقول لك تعالى اعمل مشروع وإجري (سارع) إلى تنفيذه. أنا بقول لك المشروع خلص تعالى شارك في إدارته، والعوايد اللي جايه منه. أنا خلصته (المشروع) ومستعد أخلص أد كده بفضل الله تعالى 100 مرة".
سيصبح وزير الدفاع صاحب القرار الأول والأخير في جميع مناطق التنمية بسيناء
لكن تلك التصريحات على ما يبدو حالياً، وبعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على نطقه بها، ذهبت أدراج الرياح، إذ تؤكد مصادر حكومية قرب توقيع السيسي على قانون، وافق عليه مجلس النواب الأسبوع الماضي في خضم أزمتي ليبيا وسد النهضة، يحول سيناء عملياً إلى منطقة عسكرية بصفة دائمة، ويفرض رقابة القوات المسلحة على الأنشطة الاقتصادية بها في المستقبل، مرسياً للمؤسسة العسكرية استحقاقات وسلطات تشريعية يستحيل تجاهلها، ويصعب التراجع عنها لاحقاً، حتى إذا تغير الوضع السياسي في مصر.
ويتضمن القانون تعديلاً بسيطاً، لكنه بالغ الأثر في قانون التنمية المتكاملة لشبه جزيرة سيناء، الذي كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم، بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، قد أصدره مطلع 2012، وظل منذ ذلك الحين مختصاً بشؤون منح تراخيص البناء والاستثمار الصناعي والزراعي والسياحي في المناطق المعروفة باسم "مناطق التنمية الشاملة والمتكاملة"، خصوصاً ميناء شرق التفريعة، ومشروع المدينة المليونية شرق بورسعيد، ووادي التكنولوجيا، وساحل خليج السويس، وكذلك كل المشاريع التي توصف بأنها "قومية" بقرارات حكومية.
ويتمثل التعديل في نقل تبعية الجهاز الوطني لتنمية شبه جزيرة سيناء بالكامل من رئاسة مجلس الوزراء إلى وزارة الدفاع، بحيث يكون وزير الدفاع هو صاحب القرار الأول والأخير في جميع مناطق التنمية بسيناء، فهو الذي سيختار ويعين رئيس مجلس إدارة الجهاز، وهو الذي يحدد أعضاءه، وهو الذي يملك حق دعوة مجلس الإدارة للانعقاد وحضور جلساته، وتكون له رئاسة الجلسات التي يحضرها، وفي هذه الحالة يمثل الوزراء المعنيون وزاراتهم كما يمثل المحافظون المعنيون محافظاتهم.
ويوضح التشكيل الجديد لمجلس الإدارة الغرض الحقيقي من إدخال التعديلات. ففي السابق كان القانون الساري حريصاً على الموازنة بين العناصر العسكرية والمدنية في اتخاذ القرار، بما يعكس ظروف مصر وقت إصداره، فكانت تُمثل في المجلس وزارات الزراعة والري والإسكان والكهرباء والسياحة والبترول والنقل والصناعة والتخطيط والاتصالات والهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة، وثلاثة أعضاء يمثلون شركات التنمية بسيناء يختارهم مجلس الوزراء. أما التعديلات فتمنح وزير الدفاع سلطة اختيار الجهات "المعنية" دون تحديدها، ما يعني إمكانية استبعاد بعض الوزارات والخبراء الممثلين لها من عضوية مجلس الإدارة، مع اشتراط أن يكون من بين الأعضاء "ممثلون عن الجهات المعنية، على أن يكون من بينهم ممثلون لوزارتي الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات العامة"، ما يعكس اهتمام واضع التشريع بالطبيعة العسكرية والاستخباراتية والأمنية لملف سيناء أكثر من اهتمامه بالغرض الرئيسي لإصدار القانون قبل 8 سنوات، وهو تنميتها.
التعديلات الجديدة ستجعل الاعتبارات العسكرية هي المقدمة على أي التزامات أو خطط أخرى للدولة
ورغم أن التعديلات السابقة التي أدخلت على القانون في عهد السيسي عام 2015، ولائحته التنفيذية التي كان قد أصدرها رئيس الوزراء الأسبق هشام قنديل عام 2017، تضمن سلطة كبيرة للجيش والداخلية والمخابرات في عرض وإقرار عدد كبير من التصرفات، مثل منح حق الانتفاع للمصريين والأجانب، وتحديد المناطق المطلوبة للاستخدامات العسكرية والأمنية، واستثناء بعض الأجانب من قيود التمليك بقرار جمهوري، فإن التعديلات الجديدة ستجعل الاعتبارات العسكرية هي المقدمة على أي التزامات أو خطط أخرى للدولة، بتنحية الجهاز الحكومي بصورة شبه كاملة.
ووفقاً للمصادر الحكومية سيترتب على صدور التعديلات ضرورة إصدار لائحة تنفيذية جديدة لتعديل طريقة اختيار مجلس الإدارة وتشكيله، ونقل سلطات رئيس الوزراء إلى وزير الدفاع، والتي على رأسها تحديد جهات الولاية التابعة للدولة، والمخصص لها مساحات داخل شبه جزيرة سيناء، والتي تعنى بتنميتها والتصرف فيها وإدارتها واستغلالها في جميع الأنشطة والاستخدامات، وتلقي خطط تلك الجهات. كما ستكون لوزير الدفاع الكلمة الأخيرة في تحديد مناطق التنمية الشاملة المتكاملة بشبه الجزيرة، والتي تقام فيها المشاريع القومية، فضلاً عن سيطرته على القرارات المنفذة لما تم تحديده من هذه المناطق بالتنسيق مع المركز الوطني لتخطيط استخدامات أراضي الدولة، على أن تتضمن تلك القرارات القواعد والإجراءات الواجب اتباعها لإقامة تلك المشاريع.
وبذلك ستملك المؤسسة العسكرية بشركاتها وقطاعاتها الإنتاجية كل مفاتيح احتكار مجالات الاستثمار في سيناء مستقبلاً، بما تحظى به من مزايا تنافسية مطلقة، بالمخالفة لتعهدات السيسي السابقة، التي ترجح المصادر، بعد الدفع بهذا القانون، أنها "كانت موجهة كرسالة للخارج لتخفيف الضغوط على مصر في ملف اقتصاد الجيش، الذي يسبب للسيسي حرجاً بالغاً في علاقاته بالولايات المتحدة تحديداً، وكذلك بالإمارات والسعودية".
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يطلق فيها السيسي مثل تلك التصريحات لتهدئة الضغوط ثم العمل واقعياً على النقيض منها. ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن إمكانية البدء في طرح شركات القوات المسلحة في البورصة، ضمن برنامج الطروحات الحكومية المقتصرة حتى الآن على شركات قطاع الأعمال العام وبعض الشركات المملوكة للهيئات الاقتصادية، رغم أن جميع شركات الجيش ليست مؤسسة كشركات مساهمة من الأصل، وغير خاضعة لأي نوع من الرقابة الفعلية، بناء على التهرب المستمر من رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات. ثم دعا القطاع الخاص للتركيز على مشاريع تحلية المياه، التي من المقرر أن تتوسع فيها الدولة حالياً لمواجهة النقص الحتمي في كميات المياه الصالحة للشرب والري بعد إنشاء سد النهضة الإثيوبي.
وفي ذلك الوقت، كان السيسي ورئيس وزرائه مصطفى مدبولي عائدين منذ فترة قصيرة من نيويورك، حيث طُرحت عليهما استفسارات وانتقادات بشأن التوسع المطرد في اقتصاد الجيش والتضييق على المستثمرين المحليين بمزيد من القيود الإجرائية، أو مزاحمتهم في مشاريعهم، فضلاً عن طرح تساؤلات عن مدى حاجة الجيش المصري للمعونة الأميركية السنوية ذات القيمة المالية التي تضاءلت بمرور الزمن، وعما إذا كان الجيش قادراً على تحقيق أرباح ضخمة من أنشطة تشهد تضييقاً مستمراً على المستثمرين الأجانب، ومنهم الأميركيون. كما أعرب آنذاك بعض رجال الأعمال الإماراتيين، خلال زيارتهم لمصر لمتابعة مشاريعهم في العاصمة الإدارية الجديدة والساحل الشمالي، عن مخاوفهم من عدم إمكانية الاستفادة من تلك المشاريع في المواعيد المخطط لها، نتيجة تأخر الهيئة الهندسية للجيش في تسليم المرافق والطرق التي كان مقرراً إنجازها نهاية العام الماضي، فضلاً عن انتقادهم سوء تصرف الجيش وشركاته في العديد من المساعدات التي تلقتها الدولة وفوض السيسي الجيش بإدارتها، خصوصاً على مستوى مشاريع المدن الجديدة.
وكان السيسي قد أصدر عام 2015 قراراً جمهورياً، يُعتبر مفصلياً في تكريس قوة الجيش الاقتصادية، منحه به صراحةً صلاحية "تأسيس الشركات بكافة صورها، سواء بمفرده أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني أو الأجنبي"، وذلك بهدف تجهيز وإعداد مدن ومناطق عسكرية، والقيام بجميع الخدمات والأنشطة التي من شأنها تحقيق أهدافه وتنمية موارده، وذلك بواسطة جهاز وزارة الدفاع المختص ببيع الأراضي والعقارات المملوكة للدولة التي تخليها القوات المسلحة. يذكر أن قانون تنمية سيناء ولائحته يحظران التملك أو الانتفاع أو الإيجار، أو إجراء أي نوع من التصرفات في الأراضي والعقارات الواقعة في المناطق الإستراتيجية ذات الأهمية العسكرية، والمناطق المتاخمة للحدود، على أن يكون استغلالها طبقاً للضوابط والقواعد التي يصدر بها قرار من وزير الدفاع، والجزر الواقعة بالبحر الأحمر، والمحميات الطبيعية والمناطق الأثرية وحرمها.