ولمزيدٍ من التعريف بالكتاب، تنشر "العربي الجديد" صفحاتٍ من فصلين منه، من بعض ما تحدّث عنه عزمي بشارة بخصوص صلته الشخصية والسياسية بسورية، منذ زياراته لها، ولقاءاته بالرئيسين حافظ الأسد وبشار الأسد، وصولا إلى وقوفه مع الشعب السوري في ثورته ضد الطغيان. أما الصفحات الأخرى فهي عن تواصل بشارة مع القيادة الفلسطينية، ممثلةً خصوصا بالرئيس الراحل ياسر عرفات، ورؤيته لأحداث الانتفاضة ومفاوضات كامب ديفيد في حينها. ومبعث اختيار هذين الموضوعين من بين قضايا الكتاب الكثيرة اتصالهما بمقدمات الجاري حاليا من وقائع سورية وفلسطينية. هنا حلقة ثانية وأخيرة
• أعادت الانتفاضة الأولى منظمة التحرير الفلسطينية إلى الخريطة السياسية الدولية، لكن الانتفاضة الثانية تبدو كأنها تبدّدت نهائيًا. لماذا؟
الانتفاضة الثانية كانت مرة أخرى ردة فعل على محاولة عزل القيادة الفلسطينية، لأنها قالت "لا" في مفاوضاتها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود باراك، وفريقه برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون في منتجع كامب ديفيد، وأصرّت على استمرار الانسحابات الإسرائيلية، واحتجت على عدم التوصل إلى "حل نهائي". ولم تكن للانتفاضة استراتيجيا سياسية، فقد كانت ردة فعل على ما جرى في كامب ديفيد 2 في 11 تموز/ يوليو 2000، ثم على حصار القيادة الفلسطينية في رام الله. وكانت إسرائيل قد حاولت فرض حل دائم غير عادل على المنظمة، بعد أن عطّل إيهود باراك الاتفاقات المرحلية والانسحابات الإسرائيلية المستحقة بموجبها، وأراد أن يتوجّه فورًا إلى حل دائم، لكن بالشروط الإسرائيلية؛ وهي شروطٌ لم يكن في وسع ياسر عرفات قبولها، وكان هو يعرف ذلك قبل الذهاب إلى كامب ديفيد. وقال لي ذلك مراتٍ قبل الذهاب. وكنت متفقًا معه في هذا التقويم، وعبّرت عن ذلك مرات عدة في الإعلام، في حين لم يعبّر هو عن هذا الرأي، لأنه كان في خضم المفاوضات مع إدارة كلينتون.
المشكلة أن أميركا تبنّت موقف باراك مع بعض التعديلات، وأرادت أن تفرض على ياسر عرفات حلًا دائمًا لا يمكنه قبوله، خصوصًا في ما له علاقة بالقدس. ولما رفض عرفات ذلك، بدأت حملة التحريض عليه، وعلى المنظمة عمومًا، والمشكلة أيضًا أن بعض المحيطين بعرفات حينذاك أبلغوا الإدارة الأميركية أنه سوف يقبل لو ضغطت الإدارة عليه في كامب ديفيد. وأذكر أن السفير الأميركي، مارتن إنديك، قال لي في زيارة للبرلمان الإسرائيلي (الكنيست) إن معلوماتهم ليست مطابقة لتقويمي، وإن عرفات سوف يقبل الشروط. وقلت له حينذاك: سوف تفشل المفاوضات، وستقودون الأوضاع إلى كارثة.
• أذكر أنك أعلنت فشل "كامب ديفيد" عبر التلفزيون.
لا أذكر بالضبط. أعتقد أننا تبادلنا أرقام الهواتف قبل السفر، أنا والأمين العام للرئاسة الفلسطينية الطيب عبد الرحيم. ولا أذكر من اتصل بالآخر. وكان هذا أمرًا غير عادي، لأني لستُ من حاشية ياسر عرفات. لكن علاقتي به كانت ممتازةً في تلك المرحلة، إذ كنا متفقين في الموقف، وكانوا يعرفون موقفي من "كامب ديفيد". وقال لي عبد الرحيم إنهم يحزمون الأمتعة للمغادرة، وإن المفاوضات فشلت. وأذكر أن الطيب عبد الرحيم قال لي أيضًا: "الختيار يريد التكلم معك، ونحن نحزم حقائبنا للعودة". وقال لي عرفات إن المفاوضات انتهت. وأذكر عبارة: "دي القدس يا حبيبي" باللهجة نصف المصرية المعروفة عنه. وسألته: هل يمكنني أن أعلن ذلك؟ قال نعم. وهذا ما فعلته. كنت أعرف تمامًا أن المفاوضات سوف تفشل. والغريب أن بعض المحيطين بياسر عرفات كانوا يوهمون الولايات المتحدة أنه إذا ضغطت عليه سوف يرضخ لشروط الحل الدائم. وقد تفاجأوا من موقفه هناك.
• تزامنت الحملة على منظمة التحرير مع عملية البرجين في نيويورك في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. وهذه العملية خرّبت كثيرًا مسيرة الانتفاضة الثانية.
كما خرّبت حرب الخليج وانهيار الاتحاد السوفياتي الانتفاضة الأولى. وفي أي حال، فإن الانتفاضة الثانية قامت بها بدايةً السلطة الفلسطينية. وقد انضمت حركة الجهاد الإسلامي بقوة لافتة، ولا سيما في جنين وشمال الضفة الغربية عمومًا، وكذلك حركة حماس التي واصلت العمل بقوة. واتخذت الانتفاضة الثانية بسرعة شكل العمل المسلح، واستخدمت اسرائيل الطيران أول مرة في قمعها.
• صحيح وكان الراعي هو ياسر عرفات نفسه. أَليس كذلك؟
أنت تتحدث عن البدايات. السلطة عبّأت الشعب الفلسطيني كله آنذاك. وفي البدايات الأولى، كان لشباب الانتفاضة الأولى، ومنهم مروان البرغوثي، وقيادات كتائب شهداء الأقصى وأعضائها، وأجهزة الأمن الفلسطينية، شأن كبير في الانتفاضة. وكان ثمّة سابقة مهمة، وتمرينٌ على ما جرى في الانتفاضة الأولى، وفي حادثة الحرم القدسي (الهبّة ضد النفق) في عام 1996. ومن المعلوم أن انتفاضة عام 1996 قام بها الأمن الفلسطيني في سياق الصراع ضد بنيامين نتنياهو. والانتفاضة الثانية شكّلت قلبًا للطاولة في وجه إيهود باراك ثم أريئيل شارون.
• لكن الانتفاضة الثانية لم تتوصل إلى نتائج سياسية مهمة.
تعاملت إسرائيل مع الانتفاضة كحرب، وليس كتمرد شعبي. ولاحقًا اغتيل ياسر عرفات، وضُرب التيار الفلسطيني الذي مثّله، والذي كان ينظر إلى المفاوضات مع إسرائيل باعتبارها تكتيكًا يمكن قلبه أو تغييره أو المناورة في شأنه. وبعد وفاته، أو للدقة اغتياله، أمسك بالسلطة التيار الفلسطيني المحيط به الذي يعتبر المفاوضات مع إسرائيل استراتيجيا لا بديل منها. هكذا كانت النتيجة. ونحن نعيش في مرحلةٍ صارت القيادة الفلسطينية ترى أن البديل من التفاوض الذي فشل هو انتظار المزيد من التفاوض. هذه القيادة ربحت المعركة بسلاح إسرائيلي، وغيّرت العقيدة السياسية الفلسطينية، ثم غيرت عقيدة الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تدرّب عناصرها على أيدي جنود الجنرال كيت دايتون. والمشكلة الرئيسة التي تواجه أي انتفاضة في الضفة الغربية اليوم أن الانتفاضة إذا ما مضت في طريقها قدمًا ستواجه أمنًا فلسطينيًا يرى أن مهمته هي مكافحة الإرهاب، لا محاربة إسرائيل.
• في بداية الانتفاضة الثانية اشتعلت فلسطين بكاملها، بما في ذلك أراضي عام 1948. هل جرى ذلك بدفع من السلطة الفلسطينية، وما كان دور حماس في تنظيم الانتفاضة؟
كنت آنذاك نائبًا في البرلمان، وواحدًا من الذين خرجوا إلى ساحات الأقصى في الصباح الباكر لمواجهة شارون. اتصل بي ياسر عرفات في الليلة السابقة، وقال لي: "أخوك فيصل سيكون في الأقصى في الصباح، والرجاء أن تقفوا معًا". وكان يقصد فيصل الحسيني الذي كانت تجمعني به علاقة ممتازة في القدس. وفعلًا توجهت إلى الأقصى، وحضر عدد من النواب العرب أيضًا. أما بالنسبة إلى الاحتجاجات في فلسطين الداخل، فلم تقم السلطة أو أي فيصل بتنظيمها، فقد بادرنا إلى تنظيم الاحتجاج بين الفلسطينيين العرب في الداخل (واتهمتني إسرائيل لاحقًا بذلك وجرى التحقيق معي، كما استُدعي الشيخ رائد صلاح والنائب عبد المالك دهامشة للمثول أمام لجنة التحقيق)، تضامنًا مع الأقصى، وضد التآمر الذي حصل آنذاك لفرض حلّ غير عادل من خلال تهديد القيادة الفلسطينية بالإقصاء. وكان القمع الإسرائيلي قد بدأ، وسقط الطفل محمد الدرة في حضن والده في أثناء تفريق التظاهرت في غزة. لم تتدخل القيادة الفلسطينية في التنظيم. اتصال أبو عمار الوحيد معي في هذه المرحلة كان هاتفيًا في أثناء تشييع الشهداء في الناصرة.
أما حركة حماس، فكانت متشكّكة بدايةً في الانتفاضة الثانية، وتعتقد أنها مناورة من عرفات متعلقة بالمفاوضات الفاشلة في كامب ديفيد، وغايتها الرد على حصار ياسر عرفات، وتحسين وضعه التفاوضي، وسوف تنتهي بعد فترة وجيزة. كانت متخوّفة من أنها ستبقى في الساحة وحدها وستدفع الثمن وحدها، إلا أن هذا التشكك سرعان ما تلاشى، ثم انضمت إلى العمل المسلح في المناطق كافة، وانضمت حركة الجهاد الإسلامي منذ البداية وبشكل خاص في غزة، وشمال الضفة الغربية، وبالتحديد في قباطية وطوباس وجنين.
• كتبت بعض الصحف الفلسطينية الصادرة في دمشق آنذاك إن الانتفاضة الثانية افتعلها ياسر عرفات، ليغطي التنازلات التي قدمها في "كامب ديفيد"، وتحدث على هذا المنوال القيادي في حماس محمود الزهار أيضًا.
الحقيقة أن عرفات قدم تنازلات في "كامب ديفيد"، لكنها لم تكفِ إسرائيل، وتوقف عند القدس. وكان إيهود باراك يخادع كعادته في مسألة رسم الخط الحدودي، فلم يوافق على ترسيمه فعلًا، خصوصًا في نطاق القدس. لكن، عندما اشتعلت الانتفاضة كان شارون قد اقتحم الأقصى، لتأكيد وحدة القدس تحت السيادة الإسرائيلية، وبدأت عمليات التضامن والتصدّي، وكان ظهر عرفات إلى الحائط، فاستثمر فيها جهده كله، ودعم كتائب شهداء الأقصى. فالانتفاضة لم تكن أداة تكتيكية بيد عرفات.
• متى التقيت ياسر عرفات أول مرة؟
ما عدت أذكر بدايات لقاءاتي معه. لكنني ممن التقوه متأخرين، لأنني كنت على خلافٍ مع خط أوسلو، وكنت أعيش في أوساط تنتقد ياسر عرفات كثيرًا. وكما تعرف لست من النوع الذي يهاجم ياسر عرفات في النهار ويقبِّله في الليل، وهذا النوع منتشر جدًا في الأوساط العربية. لست من هذا النوع، ولا أحاول الاقتراب من القادة. كان لي موقف سلبي من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد "أوسلو"، ومن سلوك بعض القادة. دُعيت مراتٍ عدة إلى تونس، عندما كانت القيادة تقيم هناك، ولم أذهب، مع أن العديد من الناشطين والصحافيين من عرب الداخل وسياسييهم ذهبوا إلى تونس لمقابلة القيادة الفلسطينية في تلك الفترة. كنا ننظر إلى ذلك بعينٍ مختلفة؛ زيارات لنيل الدعم المالي، ونوع من الحصول على شرعيةٍ في ظل عدم وجود برامج نضالية. الآن، أرى ذلك بعينٍ مختلفة، وأعتقد أن تلك الزيارات، في معظمها، كانت تعبيرًا عن رغبة الناس في أن تتواصل مع قيادة منظمة التحرير. وهناك من يحب الزعامة، وهذا أمر مشروع. لكن، حينذاك، كان لي موقف معارض.
في أي حال ثمة من كان أقرب مني بكثير إلى ياسر عرفات، سواء من عرب الداخل أو من بين أصدقائي المثقفين العرب في الخارج في تلك الفترة. فمحمود درويش مثلًا كان مقربًا جدًا من عرفات. إذًا، أنا من الذين التقوا ياسر عرفات متأخرًا. لم أذهب لاستقبال العائدين، عندما جاءوا من تونس إلى غزة وأريحا، فقد كنت معارضًا لاتفاق أوسلو (وما زلت)، وكتبت ضده. وكانت مقالاتي النقدية ضد منظمة التحرير وضد "أوسلو" تُنقل إلى أبو عمار، مثلما كانت مقالات إدوارد سعيد وغيره تنقل إليه. وقد قال لي ذلك في أحد الاجتماعات، لكنه لم يعاتبني أبدًا على تلك المقالات والمواقف النقدية، على الرغم من أنه كان على علم بموقفي.
أتذكّر أنني التقيت ياسر عرفات بعد أن أصبحت نائبًا في البرلمان. ربما في عام 1996. أصبحت ثمة حاجة إلى لقائه وتنسيق المواقف معه. ولاحظت أن لديه نزعة قوية إلى التشاور، خصوصًا مع من يفهم الساحة الإسرائيلية، وأن تكون علاقته جيدة بمن يعتقد أن لديه تأثيرًا في الرأي العام. كنت أزوره في غزة، ثم في الضفة الغربية. وأعتقد أن اللقاء الأول كان للتوسط من أجل إطلاق بعض قادة حركة حماس الذين كانوا معتقلين لدى السلطة الفلسطينية في غزة. فزرته مع نوابٍ عرب وأعضاء لجنة المتابعة العليا، ثم زرنا مقر "حماس" أيضًا. وكنت حادّا بعض الشيء في مناقشتي موضوع حقوق الإنسان وقمع المعارضة، واستمع عرفات إلي بانتباه، فقد كان يعرف من أنا. ثم بدأت أزوره في غزة وفي رام الله. لا أذكر كم مرة التقيته (وأنا كما تعلم لا أكتب يوميات وحين أكتب فإنما أكتب بحوثًا وليس يوميات)، لكني كنت أناقش معه قضايا سياسية كثيرة.
• لكنه تعرض الى نقد كبير وحاد خلال الفترة التي تلت توقيع اتفاق أوسلو، لا من قوى سياسية وبعض قادة فتح فحسب، بل من مثقفين لهم تأثير في الساحة الفلسطينية والعربية، مثلك ومثل إدوارد سعيد. ورأى بعضهم أن ذلك النقد، في أحوال تلك الفترة، كان في منزلة الهجوم والتهجم واختلط الحابل بالنابل.
كما قلت لك، كان لي موقف معارض لأوسلو، وعبّرت عن هذا الموقف علانية (كما هي عادتي في مواقفي السياسية). وكانت مقالاتي النقدية لخط المنظمة تنقل إلى عرفات. لكن، دعني أميز بين بعض الأمور؛ فعلى الرغم من موقفي الحاد من اتفاق أوسلو، فإن الفارق بيني وبين صديقي الراحل إدوارد سعيد هو تمكّني من رؤية الجوانب السلبية والإيجابية عند ياسر عرفات، مثل شجاعته. لم أحقد عليه يومًا، ولم أترفّع عليه كمثقف. وشعرت أن الفلسطينيين الذين كانوا يعرفونه واختلفوا معه يحقدون عليه. انتقل إدوارد من موقف إيجابي متطرّف إلى موقف شخصي حاد من عرفات، ربما يكون السبب في ذلك أنه لم يكن مسيسًا. لم أحقد على ياسر عرفات، فأنا من الذين يرون أن الحقد في السياسة هو أكثر من أمر أخرق، بل قد يرتقي إلى خطيئة. ولم يكن لدي حساب شخصي أو "أجندة" معه شخصيًا. لم أكن معه ولم أكن ضده، فلست جزءًا من هذه الصراعات، بل اختلفت معه سياسيًا. وهذا لم يمنعني من رؤية إيجابياته. هو وطني بلا شك. أما التخوين السريع لدى بعض الفصائل والأشخاص فهو كارثة. وحبذا لو يُقال إنه رجل لديه استراتيجيا للعمل ضد إسرائيل مختلفة عن استراتيجيتنا. نختلف معه في الاستراتيجيا، لكنه لا يستبدل ولاءً بولاء. وظل ولاؤه لفلسطين وللوطن ثابتًا. كان عنده اجتهاد آخر. كنت أُستفز من سهولة التخوين ومن استسهال الاتهامات، ثم اكتشفت أن الاتهام بالخيانة عندنا مثل التكفير، إنه مجرد أداة لإقصاء الآخر، أداة استخدامية في الخلافات السياسية. ومثلما يُخوَّن الوطني إذا اختلف الطرف الذي يتهمه بذلك معه سياسيًا، يمكن أيضًا أن يحوّل مستخدِم التخوين الخائنَ فعلًا إلى وطني، و"ينظّفه" إذا اضطر إلى التحالف معه، أو احتاج إلى دعمه في وضعٍ معين. وهذه من الأمور التي تنفرّني من السياسة. هذا أمر ينفر أي شخص مبدئي أو أخلاقي من السياسة. عمومًا ثمة مشكلة أخلاقية عميقة في السياسة العربية.
• هل ناقشتما قضايا تتعلق بعرب 1948؟
لا. ولا حتى مرة واحدة. كنت أناقش معه قضايا فلسطينية بشكل عام، مثل قضايا المفاوضات
والصراع مع إسرائيل، وقضايا عربية، وشؤون السياسة الإسرائيلية. لكن، لم نناقش معه شأنًا محددًا لعرب 1948. وأذكر عند ترشحي لرئاسة الوزراء في عام 1999، جرت محاولات لإقناعنا بالتراجع، وكان آخرها إيفاد عزّام الأحمد للقائي، وأعضاء المكتب السياسي في التجمع الوطني الديمقراطي لإقناعي بالانسحاب، لأنهم خافوا من أن يؤثّر ترشيحي في حظوظ إيهود باراك في النجاح بحرمانه من أصواتٍ عربية. تناقشنا مطوّلًا، وكنت أصرّ على أن لا فارق بين باراك ونتنياهو، ولذلك لن ننسحب بلا ثمن، والانسحاب ثمنه تحقيق مطالب للمواطنين العرب. وكانت لدينا قائمة بسبعة أو ثمانية مطالب مهمة. وعندما يئس عزام الأحمد من إقناعي، قال لي، وأنا أودعه عند باب بيتي: "حسنًا، إذا قرّرت أن تنسحب، دعنا لا نسمع ذلك من الإعلام، أخبرنا على الأقل قبل أن تنسحب". أراد أن يوصل ذلك إلى ياسر عرفات قبل الإعلام. وفعلًا بعد نحو ثلاثة أسابيع، وقبل توجهي إلى المؤتمر الصحافي، اتصلت به وأعلمته. فأسرع ليخبر عرفات، ووجد أنه قد أصبح في مروحيته قبل الإقلاع إلى غزة (أو عمّان لا أذكر بالتحديد). اعتقد عرفات أني انسحبت من أجله. هكذا قال له عزام، كما يبدو، فقد كان حريصًا على أن تكون علاقتنا جيدة. وأعتقد أن عرفات تعامل مع الموضوع على هذا الأساس، مع أن هذا ليس صحيحًا، وأنا لم أقل ذلك يومًا لياسر عرفات.
• ما هو الانطباع النهائي الذي تركه ياسر عرفات فيك؟
كنت ألتقيه دائمًا منذ تلك الفترة، حتى في الأيام الحرجة والأيام الصعبة. وكما هو متوقع، كنت أدعم نزعته الأكثر وطنيةً، وليس نزعته التكتيكية والفهلوية. وكان موقفي، والاحترام الذي كان يلقاني به، لا يلقى رضى بعض من حوله، ويرضي بعضهم الآخر طبعًا. فأنا لم أكن من المجموعة القريبة التي تراه يوميًا، وحرصت على ألا أكون كذلك، فقد شهدت بنفسي كيف يكلم المقرّبين. وتوثقت العلاقة به بشكل خاص قبل قمة كامب ديفيد، لأنني كنت أعرف موقفه الحقيقي، فهو لم يرغب قط في الذهاب إليها، وكنا متفقين على أن إسرائيل ستحاول أن تفرض عليه أمورًا لا يريدها، وكان كثير الشكوك في إيهود باراك، مثلي تمامًا. وكنا متفقين في فهمنا موقف دنيس روس الصهيوني الليكودي. أنا لم أرَ باراك بطلًا للسلام في أي يوم. ولاحقًا، في أثناء الانتفاضة الثانية، كانت هناك لقاءات كثيرة حتى في فترة حصاره، وكنت أزوره كثيرًا، وكان رمزي خوري أو نبيل أبو ردينة وقبل ذلك الطيب عبد الرحيم، يحرصون على أن نجلس وحدنا وأن يتوفر الوقت للحديث. وبقيت العلاقة دائمًا علاقة احترام. وانطباعي أن ثمّة نواقص كثيرة في ياسر عرفات، والكل كان يعرفها ويتحدّث عنها ويتندر بها. لكن مواقف الناس منه تغيرت، بحسب تقريبهم منه، أو إبعادهم عنه. الآن، ومنذ حصاره، أصبح عرفات رمزًا. أما في أيامه، فقد كان موضوعًا دائمًا للتظارف والتندر، لكنهم اتفقوا على زعامته.
شخصيته مركّبة، لكن دعني أبدأ بالأمور الإيجابية حتى أكون منصفًا. إنه وطني فلسطيني بلا شك، وكان يعرف فلسطين جيدًا ويعرف شعبه جيدًا، ومهتمًا بتفصيلات الحياة في فلسطين إلى حد بعيد، ولم يستطع أن يفصل شخصه عن فلسطين. وهنا يبدأ الجانب السلبي. فقد كان يعتقد أن له الحق في أن يفعل أي شيء. والجدلية في الموضوع أن هذا التماهي الكامل مع قضية فلسطين يجعله، في كثير من الحالات، لا يتهاون في أمورٍ لا يمكنه أن يتنازل عنها، لأنها أمور تمسّه شخصيًا. وكان، في الوقت نفسه، قادرًا على تقديم تنازلاتٍ، ويتكتك كما يريد، ثم يخرج على الناس بخطاب تعبوي، ليس فيه أي ذرة من التنازل. سياسته الحقيقية كانت سياسة "المغامر" التي تنطلق من موقع الحركة، لا من موقع الثبات. هنا اختلاف سياسته مع سياسة خصمه الشقيق اللدود حافظ الأسد الذي ينطلق في حركته من موقع الثبات والدفاع عن نظام الحكم، لا من موقع الحركة. ثقافته محدودة، ولغته العربية مكسّرة، وليس من الواضح من أين نبعت الكاريزما. فلم يكن خطيبًا مفوّهًا ولا جذّابًا. ربما من حاجة الشعب الفلسطيني إلى الرموز في غياب إنجازاتٍ حقيقية على الأرض. بدلًا من رئيس مثلًا هناك رئيس رمز. ورموز لدولة بدلًا من دولة، وعرفات نفسه كان شغوفا بالرموز كما يوحي مظهره نفسه. يتجول بمظهر خارجي كأنه مجموعة رموز متجولة. وتعلمت من التجربة أن بعض الناس تنجذب للقوة والسطوة بذاتهما، وكانت في يدي أبي عمار سطوة غير محدودة في أوساط منظمة التحرير.
صفاته الإيجابية أن من المحال أن يلحظ الواحد منا أي رائحةٍ طائفيةٍ في كلامه وسلوكه. تديّن ياسر عرفات من النوع العادي والشعبي الذي نعرفه. هو شخص متديّن ومحافظ بمعنى ما. لكن، لا يوجد لديه أي تعصب ألبتة، لا ديني ولا طائفي، وهذا أمر مهم عند شعبٍ متعدّد الطوائف كالشعب الفلسطيني. وثمّة ما كان لافتًا فيه حقًا هو انحيازه إلى المرأة بشكل عجيب، وهذا ما لم ألحظه في أي زعيم عربي أو فلسطيني. هو منحازٌ إلى المرأة، ويعتقد أنها مظلومة، وهذا شأنٌ لم يلتفت إليه كثيرون، لكنه لفتني. دائمًا ينحاز إلى النساء المظلومات ويشجعهن. وإذا أردتُ أن أستطرد، فأقول إن من مزايا ياسر عرفات كثرة ترداده الأمور الخيالية التي يختلط فيها الخيال بالواقع في شأن الماضي. وأعتقد أن هناك نوادر كان يرويها مرارًا، ولكثرة روايته لها صدّقها بنفسه، وما عاد يميّز فيها بين الحقيقة والخيال في ما يرويه عن الماضي. وكان نفاق بعضهم يشجّع هذه النزعة فيه. كان يعمل بلا استراتيجيا متينة، لأنه شعر أنه في غنى عن الاستراتيجيا، وربما أعتقد أن لا أحد من القادة العرب لديه استراتيجيا، وأن هذا هو الأفضل للتعامل مع العرب. وكان التمسّك بالهوية الفلسطينية المستقلة لديه قويًا جدًا إلى درجة أن التأكيد المبالغ فيه كان، في بعض الحالات، يعوّق التنسيق العربي؛ فهو حسّاس جدًا في شأن هذه المسألة مثل مسألة تمثيله الشعب الفلسطيني. ومن سلبياته ضعفه تجاه مصر، ولا أقصد هنا الشعب، بل النظام المصري.
• كان يثور إذا مسّ أحدهم البروتوكول. وأي انتقاصٍ من مكانته يعتبره انتقاصًا من مكانة فلسطين.
لا خلاف على أن غيابه ترك فراغًا كبيرًا في الساحة الفلسطينية. كانت ثقافته محدودة، لكن قدراته السياسية وكفاءاته عالية، ونحن الآن لا نتحدّث عن رجل سياسي، بل عن زعيم. هذا هو التناقض في هذا الرجل؛ زعيم على الرغم من هذه الأمور. الزعيم فيه الكِبرياء وعدم الاهتمام بالصغائر. وهو من هذا الطراز. إذا غضب على أحدهم لا يعزله، ولا يحاربه ماليًا بقطع الراتب عنه على سبيل المثال. كان يحاول احتواء الجميع بسعة صدرٍ لافتة. وهذا ما عجز عنه خليفته محمود عباس، بغض النظر عن الاختلافات السياسية أيضًا.
• كان يمارس أبويته مع كل مَن كان إلى جانبه.
كانت لديه سعة صدر كسعة صدر الزعماء الحقيقيين. فهو لا يدخل في مماحكات. يحب المثقفين (أو يتظاهر بذلك على الأقل)، مع أنه غير مثقف. ويميل إلى إحاطة نفسه بهم. فيه صفات زعامة فقدها الشعب الفلسطيني، وهو من هذه الناحية كان ضروريًا لفلسطين.
• ياسر عرفات ليس جمال عبد الناصر، ولم يمتلك كاريزما عبد الناصر. ومع ذلك استطاع أن يكون زعيمًا ورمزًا لفلسطين. وللدقة أقول إن الشعب الفلسطيني حوّله إلى قائد رسولي لحاجته إلى هذا المثال الفلسطيني، لا إلى خصائص كاريزمية امتلكها عرفات. على سبيل المثال، كان أبو جهاد يقول: نختلف معه لكننا لا نختلف عليه. أبو جهاد كان أحد مؤسسي حركة فتح مثل أبو عمار، لكن جميع رفاقه كانوا يقدّمونه عليهم.
مصدر الكاريزما في حالته محيّر جدًا. ربما قضية فلسطين وحدها هي المصدر، علاوة على
رمزيتها وطغيان الرموز على الواقع فيها. وقد استفاد من رمزية القضية الفلسطينية مثقفون وشعراء وفنانون أيضًا، وليس ياسر عرفات وحده. كثيرون استفادوا من الشخصنة ورمزية القضية. أما المقارنة مع عبد الناصر فهي غير دقيقة؛ فتاريخ قادة الدول وزعمائها يتشكل ويقاس أثره ضمن ظروف تاريخية مرّت بها بلدانهم ومستوى الإنجاز والاستجابة للتحديات، أي إن معايير المقارنة تختلف باختلاف المرحلة التاريخية، فمتطلبات كل مرحلة تاريخيةٍ وأدوات القياس ومعاييرها وتوقعات الشعوب ورؤية الباحثين والمؤرخين مختلفة عن مراحل تاريخية أخرى. فلا تستطيع أن تعقد مقارناتٍ بين زعيم بلد تشكلت زعامته في أثناء إنجاز الاستقلال بزعيم للبلد نفسها قادها بعد عقود من الاستقلال. وعلى سبيل المثال، من المجحف أن تقارن تشرتشل في أثناء قيادة بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية برؤساء حكومات بريطانية في مراحل لاحقة، حتى لو كانوا من حزب المحافظين، أي من حزبه نفسه. إن اعتبارات الإنجاز مختلفة، وأيضًا معايير الكاريزما واعتباراتها. كما أن من الغريب والخطأ مقارنة زعيم أحد الشعوب بزعيم شعب آخر حيث تختلف ظروف كل شعب وكل بلد وكل دولة.
تصوّر لو أن ظاهرة عبد الناصر ولدت في بلد عربي صغير، أو في ظرف تاريخي مختلف، فمن الأرجح ألا يكون زعيمًا كبيرًا. المسألة ليست جمال عبد الناصر، بل الظرف التاريخي والدولة. لم يكن جمال عبد الناصر عبقريًا، وكان أقل تسامحًا وسعة صدر مع خصومه من ياسر عرفات. لكن مشروعه أكبر. إنها عبقرية الزمان والمكان وليس الشخص. تخيل لو أن عبد الناصر وُلد في بلد أفريقي آخر ماذا كان سيكون؟ ربما ضابط جيش مع ميول وطنية كما كان عبد الناصر في مصر. لِمَ لا؟ لكن، ماذا كان سيعني ضابط جيش في بداية الخمسينيات في دولة أفريقية صغيرة؟ كما أن عرفات لم يكن زعيم دولة بإيراداتٍ ونفقات وجيش وأجهزة بيروقراطية. كان زعيمًا لشعب تشظّى في بلدان عدة، واستضُعف في بعض البلدان. وفي المناسبة، أريد أن أضيف صفة أخرى من صفات أبو عمار، وهذه شاهدتها بأم عيني، وكانت قبل ذلك تُحكى لي. كان الرجل شجاعًا.
• من دون شك، وتأكيدًا لما لاحظته وقلته عن شجاعته، أذكر أنه في حصار عام 1982 كان مسافرًا إلى الخارج، وما إن بدأ القصف الإسرائيلي حتى عاد على الفور إلى لبنان. كُثر كانوا في الخارج، واتخذوا من ذلك ذريعة لعدم العودة إلى لبنان في ظل الحرب. أما هو فعاد ليقيم بين شعبه. المشهور عنه كيف تسلل إلى الضفة الغربية بعد هزيمة 1967، وهذه العملية تحتاج شجاعة فائقة. وحتى على المستوى الطائفي، معك كل الحق، فقد كان يحرص على أن يكون في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير دائمًا عضو مسيحي أو أكثر.
ليس هذا هو المقياس. أتحدّث عن تعامله مع المواطن كمواطن، من دون أن ينظر إلى دينه. فمن الممكن أن تكون طائفيًا، وتحرص على تمثيل مسيحي في اللجنة التنفيذية لأسباب طائفية. وأنا لا أقول إن هذا التكتيك لم يكن قائمًا لديه في مسايرة الغرب تحديدًا. ولكن، أتحدّث عن طبقٍة أعمق من التعامل مع الناس من دون طائفية. ولم أشعر قط بأنه يميز بين مسيحي ومسلم. لم أشعر، في أي لحظةٍ، أن هذا الرجل لديه طائفية ما. مع أنه ربما كان يستفيد من فلسطينيين مسيحيين حوله في الخبرات والاتصالات الدولية، كما كان الحاج أمين الحسيني يفعل.
• في فترة معينة، أي بعد عام 1982 كان مصطلح "العرفاتية" في لبنان تهمة. وغداة الانشقاق الذي عصف بحركة فتح، ثم الصدام السوري - الفتحاوي، أو الفتحاوي - الفتحاوي، خصوصًا في أثناء حرب المخيمات، صارت "العرفاتية" تهمةً في دمشق وفي بيروت. وبناء عليها، اعتقل كثيرون، وساهم الفلسطينيون في ذلك، ولا سيما عناصر من حركة فتح الانتفاضة، أي المنشقون على فتح.
صحيح. لكن يجب ألا ننسى أن الانقسام الضاري في ذلك الوقت كان فلسطينيًا - فلسطينيًا.
• تعرفت إلى جورج حبش. هل تستطيع أن تقيم نوعًا من المقارنة بين الشخصين؟
عرفت جورج حبش عن قرب، وكانت المودة متبادلةً. وهو لم يخفِ عواطفه. في جميع زياراتي إلى دمشق كنا نلتقي. هو كان حريصًا على اللقاء وأنا كذلك، أَكان اللقاء في مكتبه أم في مكان هادئ كمطعم أو غيره. عندما تعرّفت إليه كان قد أصبح مريضًا، وكان عاطفيًا، بل أصبح عاطفيًا أكثر، وكانت دموعه تنهمر بسهولةٍ حين تخطر في باله ذكريات من الماضي في فلسطين، أو نضالنا في الداخل. وأعتقد أن صداقة خاصة جدًا نشأت بيننا. كان مناضلًا ولا شك في ذلك، ومستقيمًا. وكنت أصبحت من النضج الكافي لأرى مدى الرومانسية في تاريخ حركة القوميين العرب، أو البعد الحالم فيها، مع أنه كان، في تلك الفترة، يتفق معي على ضرورة العمل على إعادة تأسيس التيار القومي العربي على أسس ديمقراطية، لكن هذا الأمر كان متأخرًا في حالته. وبالطبع، جمعتنا فلسطين، والبعد القومي العروبي، واهتمامي بذلك وبتعميق التوجه الديمقراطي. ثم إنه صار لا يهتم بتفصيلات السياسة اليومية، الأمر الذي سمح لنا بالحديث العام عن قضية فلسطين والقضايا العربية. وغالبًا ما كنا نتوافق.
• هل يمكن عقد مقارنة مع ياسر عرفات؟
لا، لا تصح المقارنة، سوى أن الاثنين مناضلان فلسطينيان. لكن، ثمة بُعد له علاقة بالماركسية واليسار، وأعتقد أن الماركسية مفتعلة عند جورج حبش، لأنه، بكل بساطة، لم يكن ماركسيًا، ولا علاقة له بهذا الموضوع. وجرى تبني الماركسية لاحقًا في خضم الانشقاق في حركة القوميين العرب عمومًا على مستوى التنظيم القومي، وعلى مستوى التنظيم الفلسطيني، ولا سيما التنافس مع من سيشكلون لاحقًا الجبهة الديمقراطية، وتبني خطاب حركات التحرّر اليسارية في العالم الثالث، مثل حركات التحرّر في فيتنام وأميركا اللاتينية. تبنى جورج حبش خطابًا ماركسيًا - لينينيًا في عام 1968 بتأثير اليسار في الغرب، ثم بتأثير سوفياتي وصيني. لكنني وجدت أن جورج كان قوميًا عربيًا وبقي قوميًا. أما مسألة الماركسية، فلا أعتقد أنه قرأ ماركس بشكل معمّق. وفي العمق لو لم يكن مناضلًا لكان راهبًا، لقوة مثله ومناقبيته الأخلاقية العليا.
• قرأ لينين قليلًا في مرحلة متأخرة.
ربما قرأ بعض الأدبيات الماركسية، لكني، كمتخصص في الفكر والفلسفة، لم ألاحظ أنه يعرف أفكار ماركس، ولا أقول ذلك نقدًا، بل لصالحه. فأنا لا أحترم كثيرًا الذين يتفلسفون في موضوعٍ لا يفهمون فيه، أو قرأوا عنه أو سمعوا عنه، ويردّدونه من دون فهم. من المهم التمييز هنا بين أفكار ماركس والأدبيات الماركسية السوفياتية، حيث إن كثيرًا من المثقفين العرب والشيوعيين العرب يخلطون بين الاثنين، ويعتقدون أنهم إذا ما اطلعوا على بعض الكتابات السوفياتية عن الماركسية، التي عادة ما تخلط ماركس بإنغلز ولينين وبليخانوف و"علماء سوفيات"، أصبحوا قارئين ماركس وأفكاره. الفارق كبير. المهم أن جورج حبش من خلال معرفتي التي تعمقت به لم يكن لديه ادعاءات في هذا المجال، وهو أمر يُحسب له. وبالفعل، عندما كنا نعود بالكلام إلى البدايات، عاد كما كان قوميًا عربيًا بنضجِ أعلى. أنضجته التجربة، وصار واقعيًا أكثر. وعلى المستوى الشخصي، فهو لطيف جدًا مثل ياسر عرفات، وبأقل تكتيك ودبلوماسية. الرجل صادق ولا فهلوية لديه، ولا يكذب حتى على سبيل التندّر. وليست لديه تحذلقات المتمركسين الفلسطينيين ممن كانوا قوميين عربًا في اللغة والمصطلح. وفي إمكانه أن يُحضر عائلته معه إلى أي لقاء.
وفي أي حال، كان يكن المحبة والمودة لياسر عرفات، ولم يكرهه يومًا. أقول هذا وأنا أعرف علاقته بياسر عرفات. كان يكن مودة حقيقية له أكثر مما يكن للأنظمة التي كان يعيش في كنفها، ومن ضمنها النظام السوري. وأعتقد أن جورج حبش كان يقول لي كل ما يخطر في باله. والعلاقة بيننا صارت عميقة جدًا. وأنا كما ترى لا أقول كل ما أسمع، فلا أنا صحافي، ولا أستغل ما يقوله لي الناس في جلساتٍ خاصة لاحقا. وأستغرب سلوك من يفعل ذلك.
• عندما طُرد أبو عمار من دمشق، خرج جورج حبش إلى وداعه في المطار، وكان هذا التصرف نوعًا من التحدّي للنظام السوري. وقيل إنه قال له: قريبًا نحن لاحقون بك. وهنا أود أن استطرد قليلًا في هذا الشأن لأقول: لا يوجد فلسطيني شتم جورج حبش يومًا ما، لأنه كان نوعًا من الضمير الصافي للفلسطينيين. بينما كثيرون شتموا ياسر عرفات. لكن، لو أراد الفلسطينيون أمرًا ما، فهم يذهبون إلى ياسر عرفات، وليس إلى جورج حبش.
تعرّض ياسر عرفات للشتم، لأن السياسة هي شغله وشاغلته. أما جورج حبش فلم يعمل في السياسة بالمعنى الضيق على الإطلاق، ولم يكن عنده مشروع سياسي. هذه ليست نقطة قوةٍ لشخصٍ يقود حركةً سياسية. لا توجد حالة واحدة عمل فيها جورج حبش في السياسة، بمعنى سياسات الدول والعلاقات الدبلوماسية. وحتى في حركة القوميين العرب كان يترك قيادات الأقاليم لمن يثق بهم من قادة الحركة، من دون أن يعرف شيئًا حقيقيًا عما كانوا يقومون به بالفعل. جورج حبش بقي يمثل ما يعتبر في التاريخ الفلسطيني حالةً نضالية فلسطينية ضد كذا، وليس مع كذا. الوحيدون الذين شتموه هم بعض عناصر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في البدايات، كما يحصل عمومًا في أثناء الانشقاقات. لو أن حبش انخرط في مفاوضاتٍ سياسية، وفي عمل سياسي، ومسؤولية عن شعب كامل، للحقته الشتائم. لكنه بقي خارج هذا الأمر. وأعتقد أن استقالته من الأمانة العامة للجبهة الشعبية كانت خطوةً مهمة. على فكرة، ليس في خُطب جورج حبش وياسر عرفات أي سياسة. واضح أن الاثنين كانا يهتمان بالتعبئة والتحشيد أكثر مما يهتمان بالشرح والإقناع.
• من غرائب التاريخ الفلسطيني المعاصر أن مؤسسي حركتي القوميين العرب وفتح لم يكن لهم علاقة مباشرة بالفكر، وهم ليسوا مفكرين، بل استندوا إلى نضاليتهم بالدرجة الأولى. حتى أن مؤسسي حركة القوميين العرب، أمثال وديع حداد وجورج حبش، اتكأوا على كتابات قسطنطين زريق، ولم يُنتجوا نصًا فكريًا واحدًا.
كثير من الأحزاب والحركات السياسية في تلك المراحل لم تنتج فكرًا خاصًا بها، بل استندت إلى أفكار آخرين، حتى تلك التي قدمت فكرًا خاصًا كان ذلك تطويرًا لأفكار مطروحة. كما يجب أن نأخذ في الاعتبار ظروف نشأة حركة القوميين العرب التي جاءت ردة فعل مباشرة على النكبة، وضرورة بناء حالة نضالية في مواجهة آثارها.
• لم يتبنَ أي واحدٍ من قادة الجبهة الشعبية الماركسية، لا أبو علي مصطفى ولا وديع حداد. سألتُ أبو ماهر اليماني مرة عن اعتناق الماركسية فقال لي: "شيلك من هالشغلة".
أعتقد أن صديقنا المرحوم أبو ماهر اليماني كان الأقرب في شخصيته إلى شخصية جورج حبش. ولم يكن يعمل في السياسة، بل في العمل الحزبي فحسب. تسمية جبهة الرفض هي أفضل تسمية لأمثال أبو ماهر اليماني. إنهم يرفضون السياسة، كأنهم يعتبرونها مسًّا بالموقف الرافض احتلال فلسطين عام 1948. كنا معًا، كما تذكر، حين التقينا أبو ماهر في بيت رفعت النمر في بيروت، وكان معه أنيس صايغ وشفيق الحوت، وجميعهم ظلوا أصدقاء أعزاء لي حتى وفاتهم، وكان أنيس يزروني في بيتي في عمّان كلما زارها. وكنت ألتقيه، وألتقي شفيق الحوت في كل زيارة لبيروت. انسجمت مع هذا الجيل حتى لناحية روح الدعابة، واعتبرتهم أصدقائي. كانت بيننا محبة متبادلة كما أعتقد. كتبت عنهم بعد وفاتهم تعبيراً عن هذه المحبة، ولأن وحدتي زادت بعدها.
• متى التقيت قيادة "حماس"؟
منذ سنوات، ولا يمكنني أن أحدد تاريخًا. التقيت القادة السياسيين لحركة حماس في غزة قبل ذلك بكثير. اجتمعت إلى عدد منهم إبّان زياراتنا غزة في المرحلة الأولى لوصول السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، وفي إثر الصدامات والاعتقالات التي قامت بها السلطة بحقهم. كانت تلك بوادر صدام عنيف بين فتح وحماس. ورأيت أول مرة استخدام عناصر السلطة التعذيب في السجن. لهذا تضامنت معهم، وقدمت مطالب إلى ياسر عرفات، وقادة فلسطينين آخرين مرات عدة في هذا الشأن. في تلك المرحلة تعرفت إليهم. وقبل ذلك، وفي أثناء تدريسي في جامعة بيرزيت في ثمانينيات القرن الماضي، التقيت كثيرين من ناشطي الكتلة الإسلامية قبل تأليف حماس، وشهدت بوادر التنظيم عشية الانتفاضة الأولى. ولا أخفيك أني كنت، على الرغم من تفهمي لهم، منزعجًا من التعصب الديني والخطاب الموتور نسبيًا ونزعته والتلمحيات الطائفية واضحة فيه.
• هل عبّرت عن نقدك لهم؟
كأستاذ جامعي ومدرس فلسفة ودراسات ثقافية، دارت نقاشات عدة بيني وبين طلابي الإسلاميين وغير الإسلاميين في هذا الشأن، وكنت نقديًا بالطبع. وفي رأيي كانت تلك نقاشات مهمة.
• وفي هذه المرحلة؟
جاءت علاقتي بحركة حماس في هذه المرحلة في سياق موقفي من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وقبل ذلك في رفضي القاطع الحصار الدولي الذي فرض على نتائج انتخابات 2006، ثم محاولة أجهزة أمنية الانقلاب على نتائج الانتخابات، والانقلاب المضاد الذي قامت به حركة حماس. ولا شك لديّ في أن ممارسات خاطئة ارتكبها الطرفان. وحاولت "حماس" لاحقًا من دون شك أن تفرض نمط حياة معينًا على غزة، وهذا مرفوض. لكن الحصار والعدوان الإسرائيلي بقيا، بالنسبة إلي، الموضوع الرئيس. ولهذا وقفت مع غزة بقوة ضد الحصار، ثم في جولات الحروب المتكرّرة عليها منذ عام 2008-2009، وكانت مبدئية الموقف هنا هي الأساس، ولا سيما بوجود خصوم لحماس يأملون أن تقوم إسرائيل بتصفيتهم. لقد أثار الموقف المصري الرسمي في أثناء العدوان على غزة وبعده نفورًا شديدًا لدي، وكذلك تعامل السلطة الفلسطينية مع الأمر كأنه صراع بين طرفين أجنبيين. ولهذا وقفت مثل هذا الموقف، وهم قدّروا ذلك. لذلك، تطورت بيني وبينهم علاقة ثقة مكّنتنا من التحاور. وأعتقد أن مثل هذه الثقة مفقودة في العلاقة بين حماس وفتح.
• ما رأيك بهم الآن؟
مرّت حركة حماس بتطور كبير، لا مجال الآن للتوسع فيه. لكن قيادتها السياسية نضجت بالتأكيد. أنا ألتقي خالد مشعل من حين إلى آخر، وتجمعنا علاقة صداقة، والاحترام بيننا متبادل، وكذلك موسى أبو مرزوق، وغيرهما من القادة. وأعتقد أن لديهما نضجًا سياسيًا، وأعتقد أن خالد مشعل في طريقه نحو موقف أقرب إلى حزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في تركيا. ونحن نتناقش كثيرًا في هذه الأمور، مثلما أجتمع كثيرًا مع الصديق الشيخ راشد الغنوشي، وأتبادل معه وجهات النظر في هذا الشأن. لكن أوضاع غزة الاجتماعية والسياسية في ظل الحصار لا تساعد على تطوير هذا التفكير وتعميمه. فالعدوان الإسرائيلي المتواصل والحصار المصري والصراع مع "فتح"، عوامل تعزّز عامل التحشيد والتعبئة، ويعوّق عملية الانفتاح. ومع ذلك، من المهم الخروج من دائرة ردة الفعل وتطوير موقف سياسي وفكري يلائم المرحلة وتكوين الشعب الفلسطيني.
أعتقد أن على عاتق "حماس" بثقلها النوعي، ونضالاتها وتضحياتها، تقع مسؤولية طرح تصور إسلامي مختلف عن الحركات التكفيرية المتطرفة من جهة، وعن خط الإخوان المسلمين السابق الانعزالي، وغير القادر على الحكم وعلى تقبل تركيب المجتمع وتعدّديته ومبادئ الديمقراطية أيضًا. أعتقد أن "حماس" مؤهلة لذلك، لو خرجت من دائرة ردات الفعل على الواقع الصعب في غزة، ونظرت إلى دورها الفلسطيني والعربي والإسلامي بكليته. كما أن تبنيها قضية وطنية أساسًا هو مفتاح التصالح مع الفكرة القومية والوطنية، علاوةً على قبول العمل في إطار وطني. كنت أعتقد أن من الأسهل أن تبدأ المصالحة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير، حيث لا يوجد صراع على السلطة في الشتات، ثم تشمل المصالحة السلطة لاحقًا، لكني وجدت أن ذلك غير صحيح.
________________________________________________
مؤلفات
أنجزت المخرجة الإسرائيلية التقدمية سيمون بيتون فيلمًا عن عزمي بشارة في عام 2002 بعنوان "المواطن بشارة" (52 دقيقة). ونال عزمي بشارة جائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر التي تسلمها في برلين في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2002، ونال أيضًا جائزة حقوق الإنسان من مؤسسة Global exchange في 22 أيار/ مايو 2003، وشغل موقع كرسي جمال عبد الناصر في مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بين عامي 2007 و2009. وعلى امتداد ثلاثين عامًا من مسيرته السياسية والفكرية والنضالية، كتب حتى عام 2016 نحو عشرين كتابًا في قضايا أكاديمية وفكرية وتاريخية وسياسية وأدبية، فضلًا عن مئات المقالات التي كانت تُنشر في أهم الصحف والمجلات العربية. ومؤلفاته:
- المجتمع المدني: دراسة نقدية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996. ثم صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عام 2012.
- قراءة في الخطاب السياسي المبتور، رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية - مواطن، 1998. وصدر بعنوان آخر هو العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000.
- الانتفاضة والمجتمع الإسرائيلي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2002.
- طروحات عن النهضة المعاقة، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2003.
- الحاجز: شظايا رواية، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2004.
- من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية، القاهرة: دار الشروق، 2004.
- حب في منطقة الظل: رواية شظايا مكان، القاهرة: دار الشروق، 2006.
- في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007.
- نشيد الإنشاد الذي لنا (شعر)، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2008.
- فصول (شعر)، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2009.
- أن تكون عربيًا في أيامنا، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2009.
- فلسطين وثقافة الحرية، (مجموعة مقالات) دمشق: أبواب للدراسات والنشر، 2010.
- في الثورة والقابلية للثورة، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.
- هل من مسألة قبطية في مصر؟، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.
- الثورة التونسية المجيدة، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.
- سورية: درب الآلام نحو الحرية، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013.
- الدين والعلمانية في سياق تاريخي (جزآن في ثلاثة مجلدات)، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (صدر الجزء الأول في عام 2013، ثم صدر الجزء الثاني، وهو في مجلدين، في عام 2015).
- ثورة مصر: من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير، (مجلدان)، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016.
- مقالة في الحرية، بيروت المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016.
- التنوير مشروع لم يكتمل بعد (بالعبرية)، 1995.
- الهوية وصناعة الهوية في المجتمع الإسرائيلي (بالعبرية)، 1999.