تتكرر حملات إزالة العشوائيات في مصر، لا سيما في العاصمة القاهرة وجوارها، مع التغاضي في معظم الأحيان عن حق السكان في التعويض المنصف. هذه حال عزبة خير الله التي يستغيث أهلها من احتمال تهجيرهم
في الأيام الأولى من فبراير/ شباط الجاري، كتب أحد سكان عزبة خير الله، في ضواحي حي المعادي، جنوبي القاهرة، رسالة استغاثة باسم سكان هذه المحلة المصنفة عشوائية في مصر، مرفقة بصورة لحملة إزالة موسعة لعدد من المباني. جاء في الرسالة: "طوال الوقت، هناك تهديدات متواترة لسكان العزبة لأسباب مختلفة منها أنّها أرض للدولة، أو تدخل في نطاق مشروع استثماري لبناء مجمع سكني فخم لصالح رجل أعمال، أو تمهيد من الحكومة لنقل سكان العزبة إلى محلة "الهرم سيتي" في إطار خطة القضاء على العشوائيات".
يشار إلى أنّ عزبة خير الله، جنوبي القاهرة، تتبع أربعة أحياء مختلفة وهي مصر القديمة، ودار السلام، والبساتين، والخليفة، نظراً لاتساع مساحتها البالغة 480 فداناً (نحو 2 كيلومتر مربع)، ويبلغ عدد سكانها نحو 650 ألف نسمة وفقاً لتقديرات منظمات المجتمع المدني، ما يعني كثافة سكانية هائلة.
وتضمنت الرسالة أيضاً معلومات عن حملات إزالة سابقة استهدفت عدداً كبيراً من المساكن والمتاجر والمشاغل العائدة لهم، جرت تحت إشراف قوات الأمن المركزي التابعة لوزارة الداخلية، وقوات الجيش. ويجري نقل الأهالي بشكل مباشر إلى وحدات سكنية أعدتها الدولة مسبقاً تمهيداً لإزالتها مثل حيّ الأسمرات وغيره، أو تعويض الأسرة بمبلغ مالي "غير عادل" بحسب السكان. وقال ناشر رسالة الاستغاثة عن تفاصيل التعويض: "النقل المباشر للوحدات السكنية، لا يراعي عدد أفراد الأسرة. فمساحة الوحدات تتراوح بين 45 متراً مربعاً و60 في أعلى تقدير، ويتسلمونها بعد دفع مقدم مالي قيمته ما بين ألف جنيه (64 دولاراً أميركياً) و10 آلاف (640 دولاراً)، وهناك إيجار شهري يختلف بحسب قيمة المقدم، ولا تكون الوحدة ملكاً للأسرة، بل يسكنون فيها بمنطق حق الانتفاع". أما عن التعويض المالي بعيداً عن الوحدات السكنية، فقال عنها ناشر الرسالة: "لكي تحصل على التعويض لا بدّ من أن تكون لديك مستندات تثبت أنّك من سكان العزبة، وهي مشكلة واجهت عدداً كبيراً من السكان الذين يعيشون في المكان، لكنّ بطاقاتهم القومية دونت فيها مناطق أخرى، أو ورثوا هذه البيوت عن أهاليهم، وبالتالي فإنّ العقود وعدادات الكهرباء والمياه وغير ذلك، غير مسجلة بأسمائهم، ما يعني أنّهم بالنسبة للحكومة غير مستحقين، ويجب طردهم وهدم المنزل".
الوضع نفسه ينطبق على مباني النشاطات الاقتصادية مثل المطاعم والمحلات والورش وغيرها، فإنّها لا تدخل في حساب التعويض إلا إذا كان صاحبها يمتلك سجلاً تجارياً وضريبياً، وهو ما لا ينطبق على عدد كبير منهم، ما يعني أنّ مصيرهم الطرد من دون تعويض. واشتكى صاحب الرسالة من تكريس الصورة النمطية عن العزبة وسكانها في الإعلام المصري باعتبارها "بؤرة إجرامية تأوي سلاحاً ومخدرات".
يشار إلى أنّ الإعلام المصري تناول مؤخراً الحديث عن عزبة خير الله، بعد حملة أطلقها مستشار الديوان الملكي السعودي تركي آل الشيخ في عزبة خير الله "بالتعاون مع أطفال المدارس الخاصة لتطبيق حملة التوعية للعطاء من طفل لأخيه حملت شعار معاً لمجتمع أفضل" بحسب ما نشر آل الشيخ في حساباته الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي، ونقلت عنه وسائل الإعلام المصرية. بعدها، نفذت السلطات المصرية حملة إزالة لجميع ورش الأخشاب والنجارة، بعزبة خير الله، في أعقاب نشوب عدد من الحرائق بها، ما يشكل خطورة على المكان بأكمله، بحسب الرواية الرسمية.
الرواية التي جاءت من أحد سكان العزبة، وانتشرت بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، أكدتها مبادرة "تضامن" وهي مبادرة حقوقية مصرية تهتم بالحقوق العمرانية والبيئية المختلفة. وبحسب المبادرة، فإنّ العزبة نشأت قبل أربعين عاماً، منذ كانت هضبة صخرية خالية تماماً إلا من الزواحف والحشرات. ومع منتصف سبعينيات القرن الماضي، بدأ الناس بالتوافد إلى ذلك المكان آتين من الصعيد والأرياف بغرض السكن والبحث عن لقمة العيش بالمناطق المجاورة بالقاهرة. ولمّا لم يستطع هؤلاء الوافدون تدبير سكن ملائم بالمدينة لجأوا إلى تلك الهضبة المرتفعة، وقاموا ببناء غرف من الحجارة المنتشرة بالمكان ليسكنوا فيها من دون أيّ مرافق أو خدمات.
وبدأ الصراع على حيازة الأرض مبكراً في عزبة خير الله، فقد أصدر الرئيس الراحل أنور السادات قراراً في بداية سبعينيات القرن الماضي، بتخصيص أرض هذا المكان لصالح شركة "المعادي للتنمية والتعمير" من أجل إنشاء وحدات سكنية جديدة عليها. لكنّ الأهالي تمسكوا بالبقاء في المكان لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف إيجار وحدات سكنية أو شراء أرض لبناء مسكن في مكان آخر. وبدأ الأهالي ينظمون أنفسهم لاتخاذ إجراءات قانونية لضمان حقهم في البقاء هناك، خوفاً من محاولات الإخلاء التي تقوم بها الشرطة والمحافظة. وبالفعل، أقام الأهالي أول دعوى قضائية عام 1984 من أجل المطالبة بأحقيتهم في تملك الأراضي المقامة عليها مساكنهم. استمرت هذه القضية بالمحاكم ما يقرب من خمسة عشر عاماً. وفي عام 1999 صدر حكم نهائي من المحكمة الإدارية العليا لصالح أهالي عزبة خير الله بإلغاء قرار المحافظة بالامتناع عن بيع الأراضي لهم، ما يعنى إقرار أحقية المواطنين في تملك الأراضي عن طريق شرائها من المحافظة. لم ينفذ الحكم حتى وقتنا هذا، لكن بالرغم من ذلك فقد أثبت هذا الحكم أحقية أهالي العزبة بالبقاء في المكان، وأبعد عنهم شبح التهجير والإخلاء القسري.
يشار إلى أن التعليق العام رقم 7 لسنة 1997 الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أكد أنّه يتعيّن على الدول الأطراف بالعهد، قبل القيام بأيّ عمليات إخلاء للسكان، التأكد من بحث جميع البدائل المتاحة، وذلك بالتشاور مع المتضررين، ذلك بغرض تجنب استخدام القوة، أو على الأقل الحدّ من الحاجة لاستخدامها، كما أكدت ضرورة ضمان الدولة لسبل الانتصاف للمتضررين من أوامر الإخلاء، وهو ما أكدته أيضاً المادة 2 البند 3، من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، لعام 1966. ونظراً لعدم حسم قضية حيازة أرض العزبة حتى الآن، يقوم أصحاب العقارات بدفع مقابل انتفاع بالأرض كلّ عام بنسبة 7 في المائة، من قيمة الأرض التي قدرتها الجهات الإدارية بمحافظة القاهرة بمبلغ 200 جنيه (13 دولاراً) للمتر المربع، أي ما يعادل حوالي 14 جنيهاً (0.9 دولار) للمتر المربع سنوياً. أما الإيجارات فتتراوح بين 300 جنيه (19 دولاراً) و500 (32 دولاراً) شهرياً للإيجار الجديد، وقد تقلّ أو تزيد عن ذلك تبعاً للمناطق.
وفي عام 2008، عقب انهيار صخرة الدويقة، وخوفاً من تكرار هذه الانهيارات في الحواف الصخرية بعزبة خير الله، شكّلت محافظة القاهرة لجنة هندسية لدراسة مناطق الخطورة في العزبة وحي إسطبل عنتر التابع لها. وأوصت اللجنة الهندسية بضرورة إزالة عدد من المنازل الواقعة على حافة الجبل - التي تعتبر من المناطق غير الآمنة - مع نقل سكان تلك المنازل إلى مساكن بديلة في مدينة السادس من أكتوبر. لكن، سرعان ما تم البناء في المناطق التي جرى إخلاؤها مجدداً نظراً لرغبة الأهالي في البقاء بالمكان، وارتباطهم به مهنياً، وصعوبة الانتقال من مناطق بعيدة عن العزبة وإليها، من قبيل مدينة السادس من أكتوبر.
كذلك، وقع عدد من المشاكل أثناء عملية الإخلاء وترحيل السكان لأسباب كثيرة منها: رفض البعض إخلاء المساكن، وعدم توفير مساكن لجميع المتضررين، وعدم إجراء حصر دقيق وحقيقي للمستحقين، ورغبة أشخاص آخرين من غير المستحقين في الحصول على وحدات بديلة. وبحسب مبادرة "تضامن" فإنّ غياب شبكات مياه الشرب والصرف الصحي الملائمة من أبرز مشاكل العزبة، كما يعاني المكان من تدهور شديد في حالة شوارعه، وتتراكم القمامة لعدم تدخل الجهات الحكومية المسؤولة عن ذلك. كذلك، فإنّ المكان مهدد دائماً بحدوث حرائق مدمرة قد تعرضه لمخاطر كبيرة، خصوصاً في ظل الكثافة البنائية والسكانية العالية، ومنشأ هذا الخطر انتشار الورش خصوصاً في مجالات النجارة وصناعة الأخشاب والرخام.
وعن فرص تطوير العزبة، تعارض المبادرة خطة الإخلاء القسري والإزالة، وتقترح أن تعمل الدولة على توفير الخدمات العامة التي يحتاجها وينتظرها أهالي العزبة منذ أعوام. كذلك، النهوض بالعزبة اقتصادياً واجتماعياً، من خلال تطوير القاعدة الصناعية والحرفية في العزبة من خلال دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة فيها، إلى جانب الاهتمام بالمعالم الأثرية والثقافية، إذ تضمّ العزبة عدداً من المواقع الأثرية والمزارات السياحية التي تتركز معظمها في حيّ الفسطاط الواقع في شمالها، ومنها عين الصيرة، وحفريات مدينة الفسطاط، وكنائس مصر القديمة، ومراكز صناعة الخزف، ومتحف الحضارة.