ولهذا السبب سُلِّم إليهم في فبراير/شباط الماضي وثائق جديدة، وطُلب منهم أن يروا إن كانت تُغيّر نتائجهم.
ومن بين النقاط التي يتوجب على هؤلاء الخبراء القضائيين الانكباب عليها، تحديداً، أصل النشاط الإشعاعي الذي عُثر عليه في قبره. فضلاً عن الاجابة عن أسئلة عدة، عن عثور العلماء الذين اقتطعوا بقايا جثمان عرفات أثناء نبشه في رام الله، في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، على آثار "بولونيوم 210" (مادة إشعاعية سامة، استُخدمت بشكل خاص في اغتيال المعارض الروسي، ألكسندر ليتفينينكو، العام 2006) في عظامه، وبنسبة أكثر بـ 20 مرة مما يوجد في عظام جثث أخرى؟ ولماذا فروة الرأس كانت أكثر إشعاعاً من الكفن بـ33 مرة؟ ولماذا كانت الأرضية الواقعة تحت جوف بطن عرفات، أكثر تلّوثاً من الأرض البعيدة عن الجثمان بـ17 مرة؟
الاستماع إلى 49 شخصاً
وطلب محامو سهى عرفات من الخبراء السويسريين، الذين كانوا قد توصّلوا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، إلى أن التسمّم فرضية "معقولة"، أن يُقارنوا بين تقريرهم وتقرير الفرنسيين. وسُلِّمت الدراسة النقدية المكوّنة من 12 صفحة إلى القضاة. وانطلاقاً منها، قرّر القضاة طلب تحقيق إضافي من الطبيبين في المعهد الطبي الشرعي في باريس، مارك توكليون وباتريك باربيت، ومن الأخصائي في علم السُّموم، مارك ديفو.
وحدهم السويسريون كان بوسعهم فحص الأغراض الشخصية لعرفات، والتي كانت موجودة في كيس رياضي. وقد أجروا تحليلات إشعاعية وعثروا على آثار مرتفعة من "بولونيوم 210"، في الأشياء التي كانت على اتصال مع السوائل البيولوجية (عرق، ريق وبول) لياسر عرفات، بـ36 مرة مقارنة مع الأشياء الأخرى التي لم تُمسَّ. وكانت فرضية تسمّم الرئيس بواسطة "بولونيوم"، معقولة بشكل كافٍ في نظرهم، وتستدعي أن يَطلب القضاةُ نبش قبر عرفات وفحص جثمانه.
ما الذي يقوله التحليل النقدي للتقريرين؟ يقول في البداية، إن "السويسريين والفرنسيين لم يقوموا بنفس القراءة لتقرير المستشفى. واستنتج السويسريون أن تقرير مستشفى بيرسي، لا يستبعد سبباً ساماً لأعراض المرض الأولى، التي ظهرت قبل شهرٍ من وفاة ياسر عرفات".
أما الخلاصة التي خرج بها التقرير الفرنسي فتؤكد، على العكس، أن "التحاليل كافية لإبعاد كل الأسباب السامة عن أصل المرض، الذي تسبب في الموت". ويثير التأكيد، الذهول في أضعف الأحوال، لأنّ أيّ تحليل حول التسمم، مهما كانت درجة اقتداره، لا يمكن أن يكون، من حيث المبدأ، كاملاً، كما أشار رئيس المركز الجامعي للطب الشرعي في سويسرا الفرانكفونية، باتريس مانجين، ومدير معهد الفيزياء الإشعاعي في المركز الطبي الجامعي بمدينة لوزان، فرانسوا بوشود.
وقد استمع قضاة التحقيق إلى 49 شخصاً في إطار لجنة قضائية دولية. وقد استمعوا، بشكل خاص، إلى أعضاء الحرس الرئاسي لعرفات، وحراسه الشخصيين، وسائقيه الخاصين، ورئيس الدفاع المدني وموظفي التلفزيون الفلسطيني. وأكد الجميع أن "حالة عرفات الصحية بدأت في التدهور، بشكل مفاجئ، يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول 2004، بعد تناوله طعام العشاء، وتلقيه علاجاً من طبيب الأسنان".
وانتابت الرئيس في حينه حالات من التقيؤ، وبدأ يشتكي من آلام في بطنه والحمّى. وأشار مُقرّبون منه الى أن "حالته العامة تدهورت في شكل سريع في الأيام التالية". ونقص وزنه ثلاث كيلوغرامات في أسبوعين. وكان يُقيم منعزلاً في المقاطعة، ومُحاصَراً من قِبل الجيش الإسرائيلي. كانت ظروف العيش متقشفة، وأكياس الرمل تسدّ مداخل النوافذ، وهو ما كان يضفي ظلاماً شديداً على الطابَقَين.
وقد تحدث طبيب تونسي، قَدم على وجه السرعة، إلى المكان، لإجراء فحوصات لياسر عرفات، عن رائحة إسطبل في الداخل، بينما حكى كثر عن تقاسم "الختيار" طعامه مع حرسه المقربين، ولم يكن يتردد في تناول الطعام من صحونهم.
وفي المقابل، وحدها أدويته المرتَّبَة في حقيبة كانت مخصصة له وحده. وأتلف رئيس الأمن الرئاسي، يوسف عبد الله، الحقيبة بعد مغادرة عرفات للمقاطعة، حسب شهادات عدة أمام القضاة الفرنسيين. وتوصّل تحقيق داخلي فلسطيني، الى أن عبد الله تلقّى أوامره من رئيس أحد أجهزة الأمن الفلسطينية، محمد دحلان، المعروف بعلاقاته القديمة مع الاستخبارات الداخلية الإسرائيلية، "شين بيت".
وفي 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، توجهت سفيرة فلسطين في فرنسا، ليلى شهيد، إلى فيلاكوبلاي، لاستقبال عرفات. وحين استمع إليها القضاة في فبراير/شباط الماضي، عبّرت عن ذهولها، لحظة هبوط الرئيس من الطائرة، من ظهور تورّمات على وجهه. وهو ما فاتحت به أطباء بيرسي.
"كيف كان ممكنا ألاّ يُجرى تشخيص لعرفات في إحدى أفضل مستشفيات فرنسا؟"، هكذا تساءلت شهيد أمام القضاة، فاستنتج الأطباء الفرنسيون غياب سرطان وغياب أي مرض عدوى أو التهاب. وقد أسَرَّ طبيب الأعصاب التونسي، الدكتور هنتاتي، الذي أرسله الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، لعلاج عرفات، لسهى عرفات، أن "فرضية التسمّم لها أساسٌ، وهو ما يفترض تشريح الجثة، وهو ما لَم يَحْدُث أبداً".
غياب عرفات سبّب، على الفور، إزعاجاً لفرنسا. وقد قال لنا مسؤول رفيعٌ في قسم الاستخبارات الفرنسية، بابتسامة متواطئة، بعد 40 يوماً من وفاة عرفات: "لا نعرف السبب الطبي لموت عرفات". وهو تأكيدٌ أقلّ ما فيه أنه مُفاجِئٌ. كما أكّدَ مسؤول في الإدارة العامة للأمن الداخلي، حينها، أن "أربعة أشخاص يعرفون سبب وفاة عرفات: رئيس الجمهورية، جاك شيراك، ووزيرة الدفاع، ميشيل أليوت- ماري، ورئيس الإدارة العامة للأمن الداخلي، بيير بروشاند، ومدير مستشفى بيرسي".
وبعد سنوات من العلاقات الصعبة، كانت فرنسا قد أعادت، للتو، الدفء لعلاقاتها مع إسرائيل. وسيستقبل رئيسها، جاك شيراك، بعدها، بأشهر، رئيس الوزراء الاسرائيلي، آرييل شارون، في الإيليزيه، علماً أنه منذ أشهر قليلة، كان المسؤولون الإسرائيليون يكررون أن "الخلاف أمام معاودة محادثات السلام هو عرفات".
وفي ربيع 2004 ذهب شارون بعيداً، حين أكّد أن "خصمه لا يمتلك أي تأمين على حياته". وفي سنة 2006، ذكر الصحافي الإسرائيلي، يوري دان، في كتاب عن صديقه شارون، عن مكالمة هاتفية يعلن فيها شارون للرئيس الأميركي، جورج بوش، أنه "في حِلٍّ من الوعد الذي قطعه على نفسه في مارس/آذار 2001، بعدم المس بحياة عرفات". وكان رد بوش، أنه يجب ترك مصير عرفات بين يدي الله. وهو ما استدعى ردّاً سريعاً من شارون "الربّ يكون، أحياناً، في حاجة للمساعدة!"
في المقابل، أقْسم أحد الجواسيس على القول: "باريس تعرف، وباريس ستلزم الصمت". وأضاف: "يوجد ملف مصنف سرّياً، ولن تُرفع السريّة عنه إلا بعد خمسين سنة، على الأقلّ". والفرضية التي يتحدث عنها، في أكثر الأحيان، الميّالون لنظرية "التسمم" هي فرضية "شركة مُحاصَّة" (شركة مشتركة) إسرائيلية فلسطينية.
تتلخّص النظرية بالتالي: "الدولة العبرية هي التي أعطت الأوامر لمنفِّذ فلسطيني، يعمل لمصلحة الاستخبارات الإسرائيلية". كما هو حال الحارس الشخصي السابق لياسر عرفات، الذي زرع ميكرو في تونس في بداية تسعينيات، القرن الماضي. وتحوم الشبهات هذه المرة حول محمد دحلان، الموجود، حالياً، بالمنفى في الخليج العربي. ويُثبت هذا القول، مسؤول رفيع في الإدارة العامة للأمن الداخلي الفرنسي، "بعد الإعلان عن موت عرفات، مباشرة، اتصل بنا محمد دحلان يطلب تأشيرات لبعض رجاله".
وقد حاولت صحيفة "لوفيغارو" الحصول على أجوبة لاستفسارات قُدّمت إلى محاميي سهى عرفات، فرانسيس زبينر ورونو سيميردجان، لكنهما فضلا عدم الرد.