شهدت الأيام الماضية أحداثاً غير مسبوقة لجهة ترسيخ حزب الله اللبناني سيطرته على سورية، بالتزامن مع وقائع تظهر أيضاً مدى تجذر الهيمنة الروسية، وتحول أركان النظام السوري إلى ما يشبه الأتباع. الحادثة الأولى تتمثل في الاستعراض العسكري الذي قيل إن حزب الله نفذه في مدينة القصير السورية على حدود لبنان الشرقية. ولم يصدر الحزب اللبناني أي بيان رسمي بهذا الشأن. لكن صور عشرات المدرعات والآليات الخفيفة، التي لم تحمل تاريخاً مُحدداً، أتت كإعلان غير رسمي عن هذا الاستعراض الأول من نوعه منذ العدوان الإسرائيلي على لبنان في يوليو/تموز عام 2006. وامتنع الحزب منذ ذلك التاريخ، لأسباب أمنية، عن تقديم عروض عسكرية كانت تقام بصورة سنوية في "يوم القدس العالمي" الذي أعلنه المرشد السابق للجمهورية الإسلامية في إيران، روح الله الخميني.
يُقدّم الخبير العسكري والعميد المُتقاعد في الجيش اللبناني، نزار عبد القادر، قراءته لهذا الاستعراض من النواحي السياسية والجغرافية والعسكرية. ويرى في حديث لـ"العربي الجديد" أن "استعراض القوة هذا يضرب سيادة بلدين في آن معاً: سورية ولبنان، كما يُكرس حالة الفلتان العسكري على الحدود المُشتركة بين البلدين". ويضيف الخبير العسكري أن "الرسائل السلبية للاستعراض تجاه لبنان هي في النيل من سُمعة الجيش اللبناني ومن سيادة الدولة على أراضيها وحدودها، وما ينطبق على لبنان ينطبق على سورية أيضاً".
وإلى جانب مكان الاستعراض الذي يحمل رمزية كبيرة لـ"حزب الله"، نظراً لكون معركة مدينة القصير التي جرت عام 2013، هي أول وأكبر معركة خاضها مقاتلو الحزب في سورية وكانت محافظة البقاع اللبنانية قاعدة خلفية له، سجّل عبد القادر مجموعة ملاحظات على نوعية العتاد العسكري الذي تم استعراضه. ويعتبر أن "مشاركة ناقلات جند مدرعة أميركية من طراز M113 تُشكل مفاجأة للمراقبين، خصوصاً أن هذه المدرعات لم تظهر في أي من معارك حزب الله السابقة لا في الجنوب اللبناني ضد إسرائيل ولا في سورية ضد مُختلف المجموعات المسلحة". والجدير ذكره أن هذه الآليات، وعلى الرغم من قِدمها، تُشكل العمود الفقري لسلاح المدرعات في الجيش اللبناني بعد تلقيه المئات منها على سبيل الهبات من الجيش الأميركي. وقد تمكن تنظيم "فتح الشام" (جبهة النصرة سابقاً) من اغتنام عدد قليل منها بعد معركة عرسال في تشرين الأول/أكتوبر عام 2014. وإلى جانب المدرعات الأميركية، لفت نظر عبد القادر "كمية الصواريخ الموجهة التي أشركها الحزب في استعراضه، والمعروضة على دراجات رباعية مموهة، وهي صواريخ خفيفة قادرة على إصابة أهداف حتى مسافة تتراوح بين 3 و5 كيلومترات". وسبق لجهاز "الإعلام الحربي" في الحزب الذي يُغطي سير المعارك في كل من سورية والعراق واليمن، أن نشر مجموعة فيديوهات تظهر استخدام هذه الصواريخ ضد أهداف ثابتة ومتحركة تابعة لفصائل المعارضة السورية.
وإذا كان استعراض القصير بمثابة رسالة وجهها حزب الله للدلالة على عمق نفوذه ومتانة سلطته في سورية، فهناك حادثة ثانية شهدها هذا البلد في الآونة الأخيرة وثقتها تسريبات مسجلة تظهر تأدية ضابط برتبة رفيعة في جيش النظام التحية العسكرية للأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله. حادثة يرى فيها كثيرون أنها تقدم دليلاً آخر على أن رئيس النظام بشار الأسد لم يعد يفرض سيطرة حقيقية على ضباطه الذين تحوّل ولاء أغلبهم إلى القاعدة الروسية في حميميم، أو إلى قيادات حزب الله والحرس الثوري الإيراني.
ونشرت صفحات موالية للنظام على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" مقطع فيديو يظهر فيه معاون رئيس اللجنة الأمنية والعسكرية في حلب، العميد نبيل عبدالله، وهو يوجه "تحية كبيرة نابعة من القلب" لنصر الله على "الدعم غير المحدود" الذي يقدمه لجيش النظام ضمن معارك حلب، في تأكيد واضحٍ على أن قوات الأسد عاجزة عن التقدم في جبهات القتال هناك، لولا قوات هذا الحزب اللبناني. وأنهى عبدالله حديثه بتأدية التحية العسكرية لنصر الله، في تصرف يدلل على أن انتماء وتبعية ضباط جيش النظام بات موزعاً على العديد من الجهات منها إيران وروسيا.
ويؤكد الضابط في "الجيش السوري الحر"، النقيب مصطفى معراتي، أنه لم يعد هناك جيش نظامي في سورية "بعدما انشق وقتل أغلب ضباطه وعناصره على مدى سنوات"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد" أن "من بقي من الجيش بات مليشيات تقاتل قوات المعارضة السورية إلى جانب مليشيات طائفية وحزبية، تتحرك تحت غطاء ناري من الطيران الروسي". واعتبر أن قيام ضابط برتبة عميد بتأدية التحية لما سماه "ذراع إيران في الشرق الأوسط" هو بمثابة "مهزلة كبرى"، مشيراً إلى أن التحية العسكرية تؤدى للعلم والرؤساء فقط، معرباً عن قناعته بأن العميد عبدالله يؤكد من خلال فعله أنه يعتبر نصرالله رئيسه وليس بشار الأسد.
وليست هناك أرقام مؤكدة عن عدد القتلى في جيش النظام منذ بدء الثورة السورية. لكن المبعوث الرئاسي الأميركي للتحالف الدولي ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بريت ماكورك، أكد في شهر مايو/أيار الماضي، أن نظام الأسد خسر منذ بدء الحرب تسعين ألفاً من قواته. وتؤكد مصادر مطلعة أن هناك نحو 3000 ضابط، أعلنوا انشقاقهم عن جيش النظام طيلة السنوات الماضية، وأن قوام قوات النظام، كان حتى بداية الثورة، نحو 50 ألف ضابط، 80 بالمائة منهم ينتمون للطائفة العلوية. ومع بداية عام 2013، زاد اعتماد النظام على المليشيات الطائفية، بعدما بات جيشه وأجهزته عاجزين عن حمايته أمام تقدم "الجيش السوري الحر" وانتزاعه السيطرة على مدن وبلدات في محافظات عدة. وفي ربيع 2013، بدأ جيش النظام يترنح لا سيما في حمص ومحيطها، مما هدد النظام برمته بالسقوط. فتدخل حزب الله في مايو/أيار من تلك السنة، معلناً بداية مرحلة جديدة في تاريخ سورية، عنوانها الأبرز تحوّل جيش البلاد إلى مجرد مليشيات تكاد تكون هي الأضعف، بين عدد كبير من المليشيات الطائفية التي جاء مقاتلوها من لبنان، والعراق، وأفغانستان، وباكستان، ودول أخرى بإشراف وتمويل إيراني.