فرضت هذه المجموعات سيطرتها، في غضون ساعات، على أكبر المدن الريفية اللبنانية من حيث المساحة وعدد السكان وعدد اللاجئين السوريين أيضاً. تشكل مساحة هذه البلدة - المدينة واحداً على عشرين من مساحة لبنان (البالغة 10452 كيلومتراً مربعاً) ولها أكثر من خمسين كيلومتراً من الحدود الجردية الوعرة مع سورية، فضلاً عن المعابر غير الشرعية. يتواجد فيها 30 ألف عرسالي وأكثر من 90 ألف لاجئ سوري. كان موقفها الداعم للثورة السورية، وانتماء أهلها الطائفي، من الأسباب الطبيعية لتجد نفسها محاصرة في شمالي البقاع اللبناني المحسوب بمجمله على حزب الله، مذهبياً وسياسياً وعسكرياً.
اقرأ أيضاً: معركة جرود عرسال: الطرفان يعترفان بالاستنزاف
لا تزال عرسال تدفع ثمن ذلك الاجتياح على المستويين الأمني والاقتصادي، بالإضافة إلى التضييق الاجتماعي المفروض على أهلها. بعد سنة كاملة على تلك الأحداث، زاد الوضع سوءاً، ومنذ شهرين تحديداً، نتيجة إطلاق حزب الله معركة "تحرير جرود عرسال"، دخلت القوات العسكرية للحزب جرود البلدة الجنوبية وسيطرت على جزء منها، في حين لا تزال بقية الجرود بيد المجموعات السورية، تحديداً جبهة النصرة. دفع هذا الإعلان الحكومة اللبنانية إلى إصدار قرار بتكليف الجيش بحماية الحدود، وهو قرار بقي حبراً على ورق. فاستمر الحزب في معركته كأنّ أي قرار رسمي لم يصدر.
يؤكد رئيس البلدية، علي الحجيري، لـ"العربي الجديد" أنّ "حزب الله بات يحتلّ أراضي عرسال". يصرّ الحجيري على كون ما يحصل "احتلالاً"، مشيراً إلى أنّ الأراضي التي تتمركز فيها المجموعات السورية "تقع على أطراف حدود عرسال وهي في الأساس بيد السوريين منذ عقود، فكانوا يعيشون فيها ويزرعون أرضها". يلفت الحجيري إلى أنّ جبهة النصرة وبعض مجموعات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) "موجودون على حدود عرسال لكن بعيداً عن أهلها، على الأطراف". ويعتبر أنّ "حزب الله جاء تحت عنوان تحرير الجرود ليحاصر المزارعين ويمنعهم من أرزاقهم".
أصبحت الجرود "محتلةً"، جنوباً من حزب الله وشمالاً من المجموعات السورية. يُضاف إلى ذلك حصار اجتماعي وسياسي من نوع آخر من ناحية الغرب، حيث بقية البقاع اللبناني المحسوب على الحزب. أي أنّ العرساليين باتوا يعيشون بلا أراضيهم الزراعية ولا مقالع الحجر التي تشكل أكثر من ستين في المائة من مورد رزق الأهالي فيها. وهم شبه مقطوعين عن باقي الأراضي اللبنانية لكون الطريق الوحيدة التي تربط عرسال تمرّ من بلدة اللبوة المحسوبة على الحزب أيضاً. وسبق أن قطعها الأهالي مرات عدة خلال السنة الماضية، قبل وبعد المعركة، لمحاولة الضغط على العرساليين ومنعهم من الخروج من بلدتهم أو حتى إدخال المواد الغذائية إليها.
يعتبر الحجيري أنّ الوضع الأمني في البلدة اليوم "هادئ وجيّد"، مشيراً إلى أنّ "انتشار الجيش اللبناني انعكس إيجابياً على أحوال البلدة". وتعيد مصادر محلية أخرى هدوء الأمور في عرسال ومحيطها إلى "هدنة اتفق عليها حزب الله وجبهة النصرة". وتقول هذه المصادر لـ"العربي الجديد" إنّ "الطرفين اكتفيا بما لديهما من نفوذ ومواقع، وفهما أنه لا يمكن لأحدهما إلغاء الآخر في هذه المنطقة" التي يستحيل فيها الحسم العسكري.
تزيد طبيعة هذه المنطقة الجردية وتضاريسها المعركة العسكرية صعوبةً. ففي حين يحشد حزب الله آلاف مقاتليه على هذه الجبهة امتداداً لمعركتي القلمون والزبداني، تدنت أعداد مقاتلي المجموعات السورية بشكل ملحوظ. يلفت أحد المطلعين على أجواء معركة جرود عرسال إلى أنّ "عديد مقاتلي جبهة النصرة، وما بات يعرف لاحقاً بجيش الفتح في القلمون (بانضمام مجموعات صغيرة من المقاتلين إليه باستثناء داعش)، انخفض من 2500 مقاتل إلى 1500". مات جزء من هؤلاء خلال المعارك، وتمكن جزء آخر من شق طريقه إلى الداخل السوري، بحسب ما يضيف المصدر نفسه، والذي يؤكد أنّ "خطوة مماثلة لا يمكن أن تتمّ سوى بتنسيق أو بغض طرف من حزب الله والنظام السوري".
سبق للحزب والنظام السوري أن فتحا طريق القلمون - جنوبي حمص أمام مجموعات "داعش" التي انحسبت إلى الداخل السوري. كما سبق لمسؤولي الحزب أنّ خاضوا مفاوضات مع جبهة النصرة لتسليم سلاحها والدخول إلى بلدة عرسال. وهو الأمر الذي رفضه أمير الجبهة في عرسال، أبو مالك التلي، والذي وصف المقرّبون منه هذا العرض بـ"الانتحار، وبتحويل المعركة من الجرود إلى داخل عرسال ما يضع اللاجئين السوريين وأهالي البلدة في خطر".
لم تكن نيّات حزب الله سليمة في هذا العرض، وتبيّن لاحقاً أنّ المبتغى ليس السيطرة على جرود عرسال ومحاصرة البلدة فحسب، بل جرّها إلى هذه الحرب. وهو ما بدا جلياً في خطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، قبل فترة، والذي حرّض فيه بشكل واضح على مخيمات اللاجئين في عرسال، مشيراً إلى أنها "نقطة عبور للسلاح والمال والدعم إلى الجرود، من الأراضي اللبنانية إلى الزبداني وريف دمشق عبر القلمون".
انعكس هدوء الجبهة قبل أسبوعين عبر الزيارة الجماعية التي قام بها أهالي العسكريين اللبنانيين المخطوفين لأبنائهم في جرود البلدة. سار موكب الأهالي في الجرود تحت أنظار حزب الله وعسكره الذي تقول ماكيناته الإعلامية إنه بات يسيطر على أكثر من سبعين في المائة من مساحة الجرود. وهو أمر في حال صحّ يعني أنّ الزيارة تمّت بتنسيق بين الحزب و"النصرة"، أو بتنسيق ضمني بالحد الأدنى.
لكن اللافت أنه حتى الساعة لم تعد بعد القوى الأمنية اللبنانية إلى ساحة عرسال لفرض النظام فيها. تكتفي وحدات الجيش بالانتشار في محيط البلدة، وتسير بعض الدوريات من وقت لآخر داخل أحيائها السكنية. فتسير الأمور بشكل تلقائي وتحلّ الإشكالات على صعد فردية، كأنّ البلدة غير خاضعة لأي قانون أو أي سيادة. بات 30 ألف عرسالي وأكثر من 90 ألف لاجئ سوري يعيشون في مدينة مهددة أمنياً ومحاصرة اقتصادياً وتسودها الفوضى الاجتماعية، وقد يكون هذا الواقع ثمن الوقوف إلى جانب الثورة السورية.
اقرأ أيضاً هدوء جبهة عرسال: ترسيم الحدود بين حزب الله و"الفتح"