28 يناير 2024
عرب على حائط المبكى
بعيداً عن سائر التأويلات والمفاهيم الدينية، فإن الرمز الوحيد الذي أغبط اليهود عليه، هو وجود (حائط مبكى) لهم، يفدون إليه، بين الفينة والأخرى، من كل حدب وصوب، ليستندوا إليه، ويطمروا رؤوسهم عليه، ويشرعوا بطقس بكاءٍ جماعي، حيث لا حائل بينهم وبين الحائط سوى سيل دموعهم المنهمر.
صحيح أن البكاء اليهودي ينحو باتجاه التأسّي على مجدٍ غابر، غير أن الفكرة نفسها هي ما يجذبني، وكم كنت أتمنى أن يكون للعرب حائط على الغرار نفسه، يجتمعون عليه، كلما تفاقمت أحزانهم، ليدلقوا هناك فائض دموعٍ، لم تعد تتسع لها حوائط بلادهم ومنافيهم على السواء.
أقول ذلك، وفي ذهني أن العرب شعب بكّاء بطبعه، على خلاف الزاعمين عكس ذلك، وإنْ غالبوا دموعهم لضروراتٍ عرفية ومجتمعية، غير أنني على ثقةٍ بأن في أعماقهم من مخزون الدمع ما لا يحتاج إلا لوخزة إبرة طفيفة، ليتفجر كالبالون الطافح بالماء.
بيد أن معضلة البكاء العربي تتمثل بأنها فردية، أو شخصانية، في معظمها، إذ إن كل عربي "يبكي على ليلاه"، متعمداً هنا استبدال الغناء بالبكاء، ذلك أنه لا فرق بينهما، في الوجدان العربي، بل وأكثر من ذلك، لا فرق بين الضحك والبكاء، لأن الدموع العربية سخيّة في الحالين، فضلاً عن أن اختلاط الملهاة بالمأساة في الحياة العربية جعل من التفريق بين الضحك والبكاء أمراً في غاية الصعوبة.
والحال أنه لم يتغير الكثير، منذ كان العربي القديم يبكي على أطلاله، وصولاً إلى العربي الجديد الذي اتسعت أطلاله لتصبح أوطانه، ما دامت تجمعهما وحدة البكاء، لكن من دون (حائط مبكى) يلوذون به، ليكون البكاء جماعياً، مسموع الدمع، ولربما كان لكل عربي حائطه الخاص. لكن، من الصعب على مثل هذا الحائط أن تكون له "آذان"، كما يزعم المرعوبون العرب من بطش أنظمتهم. ولذا، فإن الدمع العربي لا يلبث أن يتناثر سدى، على غرار الإرادة العربية نفسها التي تفرّق دمها بسيف القطرية والتجزيء. وهنا، يخطر سؤال عن إمكانية تحقيق الوحدة العربية على قاعدة (وحدة البكاء)، خصوصاً وأنها تكاد تكون قاسماً مشتركاً أعظم بين الشعوب العربية التي لا يكاد يخلو بيت من بيوتها من سبب للبكاء.
وما أكثر موجبات البكاء العربي، في زمننا هذا، حتى لكأنه يصلح لكل موجب منها حائط قائم بذاته، كحائط لبكاء جماعي على ضياع فلسطين، مثلاً، وحائطٍ مماثل على الاحتراب الطائفي، وآخر لانطفاء جذوة الربيع العربي، وحائط للبكاء على المهجرين السوريين، ومثله للنواح على تدمير العراق، وحائطٍ للتفجع على التردّي العربي، فقراً وجوعاً وبطالة، وحائط أكبر للبكاء من توالد الطغاة كالأرانب، وحائط بحجم السماء، ليتامى الحرية من العرب الذين دفعوا أبهظ الأثمان للحصول عليها، من دون طائل.
وفي المقابل، سأقترح بناء حوائط للضحك الهستيري العربي. وهناك يمكن لنا أن ننهار ضحكاً، على طرائف سياسية عربية كثيرة في القرن الحادي والعشرين، منها، مثلاً، وصول "البسطار السيساوي" إلى سدة الحكم بـ"ثورة بيضاء"، وعبر صناديق الاقتراع، ومنها "المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل"، ومنها "اكتشاف جاسوسية مدير مكتب صغير المفاوضين الفلسطينيين لإسرائيل"، ومنها أن سقوط الرئيس السوري بشار الأسد يعني إنهاء محور "المعارضة والممانعة"، على اعتبار أنه آخر الحكام العرب المستعدين لمحاربة إسرائيل، ومنها "التكامل الاقتصادي العربي"، وقرب إلغاء تأشيرات الدخول بين الأقطار العربية، ولكل من هذه الطرائف حوائطها التي لا أظن أنها قادرة على احتمال فداحة السخرية الهستيرية منها.
وأكاد أتخيل إذا ما نجح اقتراحي، كيف سيتناوب العرب، وعلى نحو جماعي، الاستناد إلى حائطيْن، لبكاءٍ حدّ الضحك، ولضحكٍ حدّ البكاء.
صحيح أن البكاء اليهودي ينحو باتجاه التأسّي على مجدٍ غابر، غير أن الفكرة نفسها هي ما يجذبني، وكم كنت أتمنى أن يكون للعرب حائط على الغرار نفسه، يجتمعون عليه، كلما تفاقمت أحزانهم، ليدلقوا هناك فائض دموعٍ، لم تعد تتسع لها حوائط بلادهم ومنافيهم على السواء.
أقول ذلك، وفي ذهني أن العرب شعب بكّاء بطبعه، على خلاف الزاعمين عكس ذلك، وإنْ غالبوا دموعهم لضروراتٍ عرفية ومجتمعية، غير أنني على ثقةٍ بأن في أعماقهم من مخزون الدمع ما لا يحتاج إلا لوخزة إبرة طفيفة، ليتفجر كالبالون الطافح بالماء.
بيد أن معضلة البكاء العربي تتمثل بأنها فردية، أو شخصانية، في معظمها، إذ إن كل عربي "يبكي على ليلاه"، متعمداً هنا استبدال الغناء بالبكاء، ذلك أنه لا فرق بينهما، في الوجدان العربي، بل وأكثر من ذلك، لا فرق بين الضحك والبكاء، لأن الدموع العربية سخيّة في الحالين، فضلاً عن أن اختلاط الملهاة بالمأساة في الحياة العربية جعل من التفريق بين الضحك والبكاء أمراً في غاية الصعوبة.
والحال أنه لم يتغير الكثير، منذ كان العربي القديم يبكي على أطلاله، وصولاً إلى العربي الجديد الذي اتسعت أطلاله لتصبح أوطانه، ما دامت تجمعهما وحدة البكاء، لكن من دون (حائط مبكى) يلوذون به، ليكون البكاء جماعياً، مسموع الدمع، ولربما كان لكل عربي حائطه الخاص. لكن، من الصعب على مثل هذا الحائط أن تكون له "آذان"، كما يزعم المرعوبون العرب من بطش أنظمتهم. ولذا، فإن الدمع العربي لا يلبث أن يتناثر سدى، على غرار الإرادة العربية نفسها التي تفرّق دمها بسيف القطرية والتجزيء. وهنا، يخطر سؤال عن إمكانية تحقيق الوحدة العربية على قاعدة (وحدة البكاء)، خصوصاً وأنها تكاد تكون قاسماً مشتركاً أعظم بين الشعوب العربية التي لا يكاد يخلو بيت من بيوتها من سبب للبكاء.
وما أكثر موجبات البكاء العربي، في زمننا هذا، حتى لكأنه يصلح لكل موجب منها حائط قائم بذاته، كحائط لبكاء جماعي على ضياع فلسطين، مثلاً، وحائطٍ مماثل على الاحتراب الطائفي، وآخر لانطفاء جذوة الربيع العربي، وحائط للبكاء على المهجرين السوريين، ومثله للنواح على تدمير العراق، وحائطٍ للتفجع على التردّي العربي، فقراً وجوعاً وبطالة، وحائط أكبر للبكاء من توالد الطغاة كالأرانب، وحائط بحجم السماء، ليتامى الحرية من العرب الذين دفعوا أبهظ الأثمان للحصول عليها، من دون طائل.
وفي المقابل، سأقترح بناء حوائط للضحك الهستيري العربي. وهناك يمكن لنا أن ننهار ضحكاً، على طرائف سياسية عربية كثيرة في القرن الحادي والعشرين، منها، مثلاً، وصول "البسطار السيساوي" إلى سدة الحكم بـ"ثورة بيضاء"، وعبر صناديق الاقتراع، ومنها "المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل"، ومنها "اكتشاف جاسوسية مدير مكتب صغير المفاوضين الفلسطينيين لإسرائيل"، ومنها أن سقوط الرئيس السوري بشار الأسد يعني إنهاء محور "المعارضة والممانعة"، على اعتبار أنه آخر الحكام العرب المستعدين لمحاربة إسرائيل، ومنها "التكامل الاقتصادي العربي"، وقرب إلغاء تأشيرات الدخول بين الأقطار العربية، ولكل من هذه الطرائف حوائطها التي لا أظن أنها قادرة على احتمال فداحة السخرية الهستيرية منها.
وأكاد أتخيل إذا ما نجح اقتراحي، كيف سيتناوب العرب، وعلى نحو جماعي، الاستناد إلى حائطيْن، لبكاءٍ حدّ الضحك، ولضحكٍ حدّ البكاء.