يحكي شوقي بحمدوني لـ "العربي الجديد" عن هجرة الأوائل إلى أميركا اللاتينية، ومنها الأرجنتين، بالقول:" الحديث عن هجرة الأجداد، وقد وصل عمري إلى السبعين، يذكرني بما يقوله مهاجرون جدد في أوروبا. فلم يكن من السهل على جدي وعلى جدتي، ومثلهم جيل كامل، أن يجدوا أنفسهم في عام 1906 في بلد غريب بثقافة ولغة جديدتين.
وبالرغم من ذلك حاول أجدادنا وأهلنا أن يتغلبوا على شتى المصاعب، والتركيز على تعليمنا. لم يجلسوا ليندبوا حظهم أنهم في بلاد مهجر، بل عملوا دون كلل متذكرين صعوبة أحوال البلاد قبل الهجرة على الأرجنتين". ويتذكر السيد شوقي كيف أنه كان يجري تشجيعه من قبل أهله: "كان والدي يعمل في التجارة وقال لي: ادرس لتكون ناجحا في مستقبلك".
وبالرغم من أن المهاجرين الأوائل في الأرجنتين وغيرها، عملوا في مهن عدة، إلا أن التوجه العام عندهم كان يدفع دائما باتجاه التحصيل العلمي لهؤلاء الذين ولدوا في مجتمعات جديدة، فاحتل كثير منهم مناصب عالية بعد أن درسوا الطب والهندسة والمحاماة.
ولا يتردد شوقي بالطلب من المهاجرين الجدد، "سواء كانوا في الولايات المتحدة أو كندا وأستراليا وأوروبا، التوجه نحو الاندماج في المجتمعات التي جاءوا إليها، "ففيها كل الفرص وكل الإمكانيات، وبالرغم من أنك تجد الملايين من عرب أميركا اللاتينية من الجيل الثالث والرابع، غير متقنين للعربية إلا أنهم عرب في النهاية يحملون أسماء عربية ولاتينية، ومؤثرون في الثقافتين بكل الأحوال. وهنا يأتي دور الجمعيات والمراكز والفيدراليات العربية بالنسبة للغة والتاريخ والثقافة".
في الإطار نفسه، يرى الدكتور ياسين قاعود أن "معظم أبناء الجاليات لا يتكلمون اللغة العربية، رغم أنه مضى وقت على إنشاء أسبا (تحالف أميركا الجنوبية والدول العربية)، لم تفتتح مدرسة أو جامعة واحدة تعنى بشؤون اللغة والثقافة العربية، لأن التحالف الثقافي حتى الآن شكلي وهو يطغى عليه الطابع الاستثماري-التجاري".
ويضيف: "هناك بعض المدارس في تشيلي أقامتها المؤسسات الفلسطينية التشيلية ولديهم مركز أبحاث عربية. أما الباقي فهو يركز على الجانب الاقتصادي".
غياب التنسيق
يطبع غياب التنسيق الجدي بين مختلف المؤسسات والأندية العربية في أميركا اللاتينية، لإيجاد وسائل للتغلب على هاجس مشترك، يتمثل في انحسار من يتحدث باللغة العربية بين من يعتبرون من أصول عربية، مع اختلاف بين دولة وأخرى من حيث الاهتمامات والمصالح.
وبالرغم من أن النجاحات الفردية، وهي ظاهرة يعترف بها عرب أميركا اللاتينية، إلا أن هاجسا آخر بدأ بالظهور في السنوات الأخيرة متمثلا بانعكاس الانقسامات العربية.
حتى إن الانقسام الفلسطيني الداخلي، يلمس البعض تأثيره في صفوف الجاليات الفلسطينية بتغييب، غير مفهوم لمن تحدث "العربي الجديد" معهم، لمسألة تمثيل حقيقي لهذا الشتات الكبير "واقتصاره على موسميات ومناسبات محددة، كزيارة ما أو ذكرى وطنية"، بحسب ما قال الأستاذ نعيم أبو المجد من كولومبيا.
جرى في مارس/ آذار 2014 اجتماع اتحاد المؤسسات العربية في تشيلي، في مدينة فينيا ديل مار، وكان الاتجاه هو تفعيل هذه الهيئة، ولكن ذلك يبدو ضربا من المستحيل أمام الخلافات العربية ومقر الرئاسة في البرازيل. بينما جرى في سانتياغو في الفترة من 28 حتى 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، لقاء لرؤساء وممثلين عن الفدراليات والمجموعات الناشطة الفلسطينية في أميركا اللاتينية، بهدف تشكيل الشبكة الفلسطينية لأميركا اللاتينية لتشمل تشيلي، بيرو، البرازيل، الأرجنتين، كولومبيا، الإكوادور، سلفادور، بنما ونيكاراغوا.
وجرت مناقشة عمل الفدراليات الأكثر نشاطا وبالترتيب على النحو التالي: تشيلي، بيرو، البرازيل، سلفادور والأرجنتين.
واتفق المجتمعون على دعوة مجموعات ناشطة أخرى، ولاحقا ستنضم دول أخرى.
وتهدف لقاءات الفلسطينيين في أميركا اللاتينية إلى: تشكيل الشبكة الفلسطينية في أميركا اللاتينية ومناقشة اقتراحات إصدار إعلان مبادئ قريبا، وسيعقد اجتماع خلال 2015، كي يحدد موعد المؤتمر الأول في أواخر 2015 أو بداية 2016.
محاولات في السلفادور
ومن اللافت للنظر أن الفلسطينيين الذين يشكلون 13 بالمائة من عدد سكان السلفادور، يسيطرون حاليا على أربعين بالمائة من اقتصادها.
والنفوذ الفلسطيني في السلفادور، أدى إلى توقيع اتفاقية نشر الثقافة الفلسطينية بين مؤسسة الأراضي المقدسة والنادي العربي، بتاريخ 19 ابريل/نيسان 2015.
ويهدف مشروع نشر الثقافة الفلسطينية بين الجالية الفلسطينية، إلى تعريف الشباب من أصل فلسطيني وعربي بالتراث بعنوان "اعرف تراثك"، لتشجيع زيارة فلسطين والتعاون في مجال المعارض والأعمال التجارية، وزيارة الحجيج على الأراضي المقدسة في فلسطين التي تدعم وجود الشعب الفلسطيني في أرضه.
والنادي العربي في السلفادور واحد من الأندية والجمعيات العربية المنتشرة في القارة اللاتينية، وينشط بين شبابها.
أما في نيكاراغوا فقد كان لها تاريخ طويل مع المهاجرين، إذ انخرط الكثير من الفلسطينيين في حياتها السياسية ودفعوا ثمنا لذلك. ويعتبر عمر حسان، ابن المهاجر الفلسطيني موسى أحمد حسان من أشهرهم، حيث اغتالته قوات الديكتاتور سوموزا دي بايله ولم يتجاوز الثالثة والثلاثين من العمر، بينما أصبح لإخوته شأن آخر في مناح مختلفة من الحياة.
الطبيبان الأشهران في نيكاراغوا، فؤاد حسان (طبيب أطفال)، وأمين حسان (طبيب أعصاب) -اللذان يرفضان تقاضي أجرهما مقابل علاج أي عربي حسب وصيّة والدهما- لن تتفاجأ إن دخلت عيادتهما فرأيت صليبا معلّقاُ إلى جانب آية قرآنية، تمثالاً للعذراء، وصورة للكعبة المشرُّفة. الإخوة حسان، خمسة أبناء لمهاجر عربي، وصل نيكاراغوا في ثلاثينيات القرن الماضي هو موسى أحمد حسّان، الذي جاء من قرية جبع (قضاء رام الله). وصل بجواز تركي كغيره من العرب الذين لا يزال يطلق عليهم اسم (الأتراك) في نيكاراغوا. استقر في ناغاروتي. ولأن الاسم العربي كان يصعب على أهل البلاد لفظه، فقد تغير إلى موسى خورخه، كما كتبه الموظف في دائرة الأحوال المدنية.
قصة يوسف نافع في كولومبيا
تختصر قصة المهاجر العربي يوسف نافع في كولومبيا، قصص مئات آلاف عرب أميركا اللاتينية، فقد وصلها في يناير/كانون الثاني 1961، بعد رحلة بحرية من بيروت فنابولي (إيطاليا) دامت شهر، منذ ديسمبر/كانون الأول 1960.
يقول يوسف نافع، أبو إبراهيم، لـ "العربي الجديد": "وصلت قرطاجنة بكولومبيا بعد رحلة بحرية شاقة، وكنت بعد في العشرين من عمري، أعطاني أبي 200 دولار، استدانها من آخرين، ولم أكن في رحلة استجمام بل هجرة للعمل. في كولومبيا التي وصلتها لم يكن الأمر سهلا بتاتا. انتقلت إلى بوغوتا وبدأت كتاجر شنطة".
قصة "تجارة الحقيبة" يجمع عليها المهاجرون الأوائل قبل 50 عاما، حتى من هجرة السيد يوسف، فمثلهم كان يأخذ بضائع من تجار بوغوتا العرب المختصين بصناعة النسيج. يقول: " كنت أدقع خمس المبلغ والباقي أقسطه أسبوعيا، لنقل قيمة 5 دولارات، بعد أن أكون جلت في الأرياف لأبيع حوائج نسائية طارقا البيوت وماشيا على الأقدام".
وكما يتذكر أبو إبراهيم اليوم، بعد 55 سنة من الهجرة، فإن "اللغة كانت عائقا أمام كثيرين، وكنت محظوظا بأني درست في دير اللاتين ببيت جالا، ففيها درست الفرنسية والإيطالية واللاتينية، لذا تعلمت الاسبانية وصرت أقرأ الجرائد واستعدت توازني الثقافي، وقررت أن أرحل عن بوغوتا بعدما لم أشعر بتطور حالي لسنتين".
رحل المهاجر الجديد إلى الداخل الكولومبي ووصل إلى مانسيلاس، بلد القهوة وتجارتها، وهناك عاد إلى تجارة الحقيبة مرة أخرى، لكن "بكمية أكبر وأغلى ثمنا وبالدين"، كما يقول. في ذلك الريف بدأ يتحسن وضع أبو إبراهيم "كنت سعيدا أن ابيع كل ما استدنته بيوم واحد، فقد كنت لا أزال شابا وحركتي تسمح لي". لم يمض عام حتى أسس بنفسه متجره الخاص برأسمال ادخره من تجارته تلك.
نفوذ ومشاركة في الحياة السياسية
القارة اللاتينية عاشت ظروفاً أمنية وعسكرية متقلّبة خلال عقود طويلة، أثّرت نوعاً ما في خيارات عرب أميركا اللاتينية السياسية والحزبية. فعلى كلا الجانبين، اليساري واليميني، وجد الانقسام في تلك المجتمعات انعكاساته بين أبناء تلك الجاليات.
وعلى الرغم من رفض البعض إطلاق تسمية جالية عليه كونه جزء من المجتمعات المحلية، إلا أنه لم يكن بالإمكان تجنّب مؤثرات الفترات الديكتاتورية على خيارات العرب هناك.
مثّلت فترة الانتخابات الحرة في عدد من الدول اللاتينية قياساً لمدى نفوذ وتأثير تلك الجاليات. ففي البرازيل، شهدنا في العام الماضي وقوفاً عربياً وإسلامياً مع الرئيسة والمرشحة الرئاسية، ديلما روسيف، بوجه آييسيو نيفيس، معللين ذلك بموقف روسيف من القضية الفلسطينية، وخصوصا أثناء حرب غزة.
وعلى مستوى الانتخابات البرلمانية، فإن المرشحين من أصول عربية نجحوا في الحصول على ما نسبته 7 إلى 10 بالمئة من المقاعد في الولايات البرازيلية.
وبحسب ما يقول د. ياسين قاعود، أستاذ التاريخ والفلسفة في البيرو، وهو رئيس الفيدرالية الفلسطينية، لـ"العربي الجديد"، فإنه يصعب تحديد الأرقام العربية والفلسطينية في أميركا اللاتينية "لأنه لا توجد إحصاءات رسمية في هذا المجال".
في الحالة التشيلية، هناك تقديرات لمن هم من أصل فلسطيني يجري تناولها منذ سنوات عديدة عن أن أعداد هؤلاء تقدّر بحوالي 350 ـ 500 ألف. وعلى الرغم من أن هؤلاء "لا يتحدثون العربية، ومندمجون كلياً في المجتمع التشيلي"، إلا أنه ومنذ بداية القرن الماضي، وتحديداً في عام 1922، ارتبط هؤلاء بفلسطين بطريقة نمّت عن ذكاء مؤسسي أندية الجالية، فحين جاءت النكبة تغيّر وضع تسمية "توركو" على هؤلاء.
يمكننا هنا أن نذكر ما يتفق عليه عرب تشيلي، فتأسيس نادٍ كروي فلسطيني، "ديبورتيفو بالستينو"، في سنتياغو 1920، كان علامة فارقة في تاريخ النشاط العربي.
لم يكن النادي الكروي الفلسطيني مجرد ناد رياضي، بحسب ما يقوله الفلسطينيون والناشطون في أحاديثهم لـ"العربي الجديد"، بعد مرور قرن تقريباً على تأسيسه.
لعب النادي دوراً رئيساً، برأي هؤلاء، ومنهم تشيليون ولاتينيون من أصل فلسطيني، في تأطير الحالة الفلسطينية في تشيلي وجعل فلسطين حاضرة حتى عند الأجيال الجديدة التي لم تعرف فلسطين وهي المولودة من آباء وأمهات ولدوا في تشيلي.
في حي بتروناتو في سنتياغو، أسس الفلسطينيون الأوائل في عام 1917 الكنيسة الأرثوذكسية، وفي الحي ذاته هناك مقاهٍ تحمل أسماء مدن فلسطينية، كبيت جالا، وفيه يتجمع الفلسطينيون من كل الأجيال بمَن فيهم هؤلاء الذين لا يجيدون سوى الإسبانية.
وبالرغم من أن عدد الفلسطينيين في بيرو يراوح بين 30 ـ 40 ألفاً، إلا أن الفيدرالية الفلسطينية أوصلت لأول مرة مرشحيها لخوض الانتخابات، ومنهم نائب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ونائبه.
فالفيدراليات في عدد من الدول اللاتينية تلعب دوراً كبيراً في تدعيم علاقة الفلسطينيين بقضيتهم والتأثير الإعلامي والسياسي.
(شارك في الملف: ياسين قاعود، فهد أبو راشد، إبراهيم عنبتي، محمود الزغبي، عماد نحفاوي)