عرب "الخشخيشة"
كنت أظن أن عصر "الخشخيشة" ينتهي بانتهاء مرحلة الطفولة، تلك اللعبة البلاستيكية التي يحركها الكبار باليد، فتصدر أصواتاً تشبه "الخشخشة"، لارتطام كرات حديدية صغيرة داخلها ببعضها، لإلهاء الطفل في مهده، ووقف بكائه. أما "الخشخشة" فهي صوت أشبه ما يكون بالدّوس على عشبٍ جاف. لم أكن أعلم أن "الخشخيشة" تصلح أداة سياسية، يستعملها "كبار" آخرون، لإلهاء شعوب لم تزل تبكي في مهد الغباء والخديعة، بحثاً عن "أمل" زائف.
عموماً، لا تبدأ الحكاية من صوت "خشخشة" كنت أسمعه صغيراً في الليالي الماطرة، وأبني عليه حلماً بقدوم زائر ما، أو حدوث أمر جلل يملأ البيت صخباً، وينقضّ على السكون الذي طال أمده، وإنْ كنا جميعاً، كمواطنين عرب، مسكونين بهذه "الخشخشة" أيضاً، منذ أصبحت حياتنا السياسية والفكرية والثقافية رتيبة، رتابة المقابر الساكنة.
ولا تبدأ الحكاية كذلك من ملاحظات دبلوماسي أميركي "كبير"، كان يطلب من فريقه المشرف على المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أن يُشعر الوفد الفلسطيني، "الرضيع" دوماً، بأن هناك "خشخشة" تلوح في الكواليس، كي تعطيهم "أملاً" بالحصول على شيء ما من جولات التفاوض المملة، فيكفون عن البكاء، علماً أن الوفود الفلسطينية المفاوضة ما تزال تعتمد على هذه "الخشخشة"، بعد عقدين على المفاوضات.
أيضاً، لا تبدأ الحكاية من عتب شديد لم أزل أحمله على قائد عربي مسلم، يدعى قتيبة بن مسلم، استبدل الصين بحفنة من ترابها ليدوسها برّاً بقسمه، على الرغم من أنه داس الحفنة من موقع القوة، لكن "صغار" القادة، في زمننا، عدّوا ما فعله قتيبة سابقةً يمكن البناء عليها، فآثروا أن يستبدلوا فلسطين كلها بحفنةٍ من ترابها، على "أمل" أن يقيموا عليها دولتهم، وكأنهم حرّروا الوطن السليب برمته.
تبدأ الحكاية، باختصار، من إعلان ترويجي لشكولاتة "باونتي"، أشعر، أحياناً، أنه وضع خصيصاً للعرب الذين لا يحركون ساكناً وراء أي مغامرة في حياتهم، فجاء الإعلان يقول لهم إن طعم هذه الشوكولاتة سيأخذهم إلى أدغال الأمازون وهم في مكانهم، فما كان من أمر العرب إلا أن صدّقوا هذا "الأمل"، وراحوا يقبلون على "باونتي" بنهم. وعلى غرار كل ما "سيأخذنا إلى هناك"، استبدلنا الحداثة برنين "الموبايل"، ونوافذ الإبداع بنوافذ "الويندوز"، ورحنا نسترق السمع خلف أبواب الجهالة لأي "خشخشةٍ" من العالم المتحضر تقلب سكون عالمنا، وتوقف بكاءنا البريّ الطويل.
والأنكى أن أنظمتنا الحاكمة راحت تمارس علينا دور "الخشخشة"، فتبيعنا حفنة من الآمال، في مقابل أعمارنا كلها، لاسيما حين شعرت بتهديد الربيع كراسيها، فآثر بعضها أن يسمح بحفنة "إصلاح" هنا و"خشخشة" ديمقراطية هناك، وكلها لا تلمس جوهر الحرية المنشودة، في سبيل تخديرنا وإعادتنا إلى حظائر الانقياد و"الرضا بالمقسوم".
تراني جانبت الصواب، إذن، حين أعلنت، منذ البداية، أن العرب ما زالوا يعيشون عصر "الخشخيشة"، بحثاً عن أمل خادع؟ لا أظن، لأن اليأس وحده من يرطم رؤوس الشعوب بصخرة الحقيقة، وهو المحرك الأساس للثورات وإحداث التغيير، بعيداً عن تلك "الخشخشة" التي يصدرها "الكبار" دوماً لإلهائنا، وجعلنا نلهث وراء سراب الوعود الزائفة.
الحكاية أن علينا أن نتخلص من العقدة الجماعية التي تحدث عنها أطباء نفسيون، وتصيب شعوب العالم الثالث، بعد طول إدمان على هضم الحقوق وكبت الحريات، فيصبح الشعب كله على قناعة بأنه لا يستحق أي ميزة في حياته، بدءاً من الحرية نفسها، وليس انتهاء بالمميزات الوظيفية والترفيهية، بل ومن أدنى الحقوق الإنسانية الأساسية.
أتساءل، أيضاً، هل كان ذلك الدبلوماسي الأميركي الذي كان يحمل "الخشخيشة" يحصر مقصده بالمفاوضين الفلسطينيين وحدهم، أم كان المقصود العرب جميعاً الذين ما يزالون يبكون في مهد الغباء وسراب الخديعة؟
الحكاية كلها أننا صرنا نحتاج إلى "خشخيشة" معاكسة، تعيدنا إلى عصر البكاء.