تمثّل آثار ابن عربي بمجموعها كل مظاهر الحضارة الإسلامية، فالعلوم الدينية الإسلامية نجدها في مؤلفاته وكذلك العلوم الإنسانية، وقد عُرضت كل هذه العلوم وأُظهرت ودُبّجت في كتب منطلقة من روح عرفانية صوفية، فمؤلفه الموسوعي "الفتوحات" هو خلاصة لهذه المعارف، ومن هنا رأى عثمان يحيى (1919 - 1997) العاشق لعالم ابن عربي أهمية الاشتغال على هذه الموسوعة عمره كلّه.
يحيى من الأساتذة السوريين المتخصصين في نشر التراث الصّوفي، تلقّى تعليمه الأساسي في مدينة حلب، وهو دائم الذّكر لها، نظراً لأثرها في تكوين شخصيته العلمية منذ وقت مبّكر، إذ أيقظت كلمات حكيم الصوفية ابن عطاء الله السكندري، والخواجه عبد الله الأنصاري إحساسه الديني وهو لا يزال في سنّ الرابعة عشرة من عمره.
ومن طريف ما يرويه الأستاذ أن الدروس الدينية التي كانت تُلقى على الطلاب وقتئذ كانت تتعلق بتعاليم ابن عربي وابن تيمية، وكان هذا الأمر يثير غرابة في نفسه لما عُرف بتمام التناقض بين هذين العلمين، حتى التقى يحيى بشاب صوفيّ كان يقرأ النصوص الصوفية والعرفانية جنباً إلى جنب مع نصوص ابن تيمية وابن قيّم الجوزيه، ليبدد دهشته قائلاً: "بالنسبة لنا ابن تيمية إمامٌ في الشريعة وابن عربي إمامٌ في الحقيقة وعلى المسلم الذي يبتغي تمام الإسلام أن يجمع في داخله في تناغم واتّساق لا في تأليف وتلفيق بين الحقيقة والشريعة".
يدين يحيى إلى أساتذته من المستشرقين الذين ساعدوه في رحلته العلمية، ومنهم المستشرق الفرنسي الشهير ماسنيون الذي عُرف باهتمامه بالآثار والنصوص الصوفية، وبلاشير الذي قرن اسمه بالأدب العربي والدراسات القرآنية، وهنري كوربان، ولاووست، وفي رحلته العلمية الطويلة سيصاحبه كوربان ليعملا سوية في نشر النصوص الصوفية الهامة وبخاصة نصوص ابن عربي وشارحيه.
ومن أهم الدراسات الصوفية التي قام بها يحيى ولا تزال مرجعاً هاماً في لغات عدّة لكل من أراد درس ابن عربي، أطروحته التي ترجمها شيخ الأزهر أحمد الطيب "مؤلفات ابن عربي تاريخها وتصنيفها"، وشفعت برسالة أخرى حقق فيها نصّ "كتاب التجليات" لابن عربي، الذي سطا على تحقيقه أكثر من شخص ومن عجب أن تُطبع سرقاتهم عبر مؤسسات ثقافية رسمية!
ومن الأعمال العلمية عظيمة القدر التي أسداها يحيى للثقافة الإسلامية تحقيقه كتاب "الفتوحات المكّية" الذي وُصف صاحبه بالشارح الأكبر للتصوف والناطق الرسمي باسم الميتافزيقا في الإسلام. طُبع هذا الكتاب عدة طبعات قبل أن ينبري يحيى لتحقيقه سنوات طوالاً، وصدر منه محققاً سبعة عشر مجلداً (آخرها عام 1992) من أصل سبعة وثلاثين، لكنه توفي قبل إتمامه.
لم تقتصر جهود يحيى على نشر تراث ابن عربي فحسب، بل نشر من تراث الحكيم الترمذي، وكذلك من نصوص شيخ الإشراق السهروردي، كما نشر رسائل وكتباً لصوفية آخرين، ومن جميل ما تقرأ له ما كتبه عن مجابهة المعرفة الإنسانیّة بروح إسلامیة من خلال كتاب الفتوحات المكية.