عتبة بلا باب

23 يوليو 2015
(عبد الناصر الغارم- السعودية)
+ الخط -

للذاكرة علاقة حميمة بالتعبير والمصطلح والعلامة، أي بكل ما يؤكدها أو يمحوها، إما أن يجعلها بيتاً للسكن أو مجرد عتبة بلا باب ولا مبنى.

وفي غالب الأحوال، في عالم الصراع الفكري، يتم الصراع في حقل استبدال تعبير بتعبير، أو مصطلح بآخر، أو علامة بعلامة، ظاهرياً، بينما الحقيقة هي أن ما يدور حوله الصراع هو استعمار الذاكرة الفردية والجمعية على حد سواء.

مثلاً حين يستخدم مذيع نشرة أخبار أو محلل أو معلق مصطلح "الوطن العربي" يشعر المشاهدُ أنه يعيش في مكان مألوفٍ محدّدٍ نشأ على وجوده، ونشأ على وجوده فيه. وحين يبدأ بعض هؤلاء باستخدام مصطلح "العالم العربي" يتراجع وعي المشاهد بوحدة المكان الذي كان حتى هذه الساعة قائماً، ويجد نفسه باحثاً عن مكانه في هذا العالم الغائم الذي افتقر إلى الوحدة، وحين يختفي هذان المصطلحان، ويحل محلهما بإلحاح دائم مصطلح" الشرق الأوسط" لا يعود المشاهد يعرف أين مكانه أو كيف يمكن أن يستدل على عنوانه.

إنه يخرج، هو والشعب من حوله، من دائرة المعنى. ويطفو مثل سمكة ابتلعت "زهراً" (مادة مُخدّرة يبيعها العطارون، ويرميها بعض الناس للأسماكِ لاصطيادها بلا جهد يذكر) فلا يستطيع الغوص مهما بذل من جهد، فيلحق به الصيادُ سباحة ويمسكه مسك اليد. تماماً مثلما يحدث للسمكة حين تصبح "مزوهرة" بالتعبير الشعبي العراقي، وتدور وتدور ولا تستطيع الاختباء غوصاً أو النجاة طيراناً.

ما يمّحى هنا هو ذاكرة أو ثقافة النشأة والألفة، من دون استبدالها بذاكرة حتى، لأن مصطلحاً مثل مصطلح "الشرق الأوسط"، ثم والأدهى، "الشرق الأوسط الجديد"، لا علاقة له بثقافتنا العربية من قريب أو بعيد، ولذا لا نستطيع أن نجد عنواناً لنا فيه حتى وإن أردنا، فهو رجراج غير موجود على وجه الحقيقة كما كانت موجودة مصطلحاتنا التي تعرّف بنا على الأقل.

هذه الحالة، حالة الأسماك الطافية والعاجزة عن الغوص، نعيشها يومياً حين تواجهنا تعابير تتسلل إلينا من هذه النافذة الفضائية أو تلك، أو تطرق أسماعنا التعليقات والتحليلات، فتصيب الكثيرين منا البلبلة والحيرة، إذ لم تعد تخاطب ذاكرتنا أسماءُ الأماكن والقضايا التي نشأنا عليها.

يكاد هذا الحالُ يشبه حالَ من ضيّع اسمه واسم أبيه، فما عاد يجد لهما ذكراً في اللغو الدائر على الشاشاتِ وصفحات الصحف، والمقاهي، وحتى في كتب تصادر على المطلوب فتزعم أنها "حداثية" قبل أي نقاش.

ما قيمة اللغة إن لم تكن دليلاً إلى وجودنا ووجود قضايانا؟ ما قيمتها إن لم تجعلنا نغوص ونطير ونتحرّك ونحلم بحرية كاملة في بحر وجودنا؟ أعتقد أن ما يغترب عنه الانسان هنا هو كل ما يعرِّف به أو يعرّفه، وقد يخطر بباله أن الجغرافية تغيّرت وانتقل شمال الكرة الى جنوبها أو العكس، أو حل غربها محل شرقها، وصار على الحائر منا أن يسأل من حوله أو من يمر به: من أنا؟ من نحن؟ من أنت؟ أو من هذا أو ذاك.

ما يحدث ليس تغيّراً في الجغرافية، بل تلوّث لغة، حين تفقد دورها الطبيعي في التسمية، وهو بعبارة أوضح، اقتلاع ذاكرة، ومع الاقتلاع يشعر الفردُ وتشعر الجماعة أنها تطفو فقط في انتظار الصياد، لا يعلوها فضاءٌ تذهب إليه، ولا يمتدّ تحتها عمقٌ تغوص فيه، وبين هذا وذاك لا تبصر أو تفهم ما يدور حولها حتى.

صحيح أن لا أحد يسأل النهر عن عنوانه، ولا المطر، ولا التراب، ولكن لابد من عنوان وهوية وذاكرة للإنسان.

المساهمون