11 نوفمبر 2024
عبد الله العروي وسؤال العزلة
محمود الرحبي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
انعقدت، قبل أيام، محاضرة للمفكر المغربي، عبد الله العروي، شهدت حضورا جماهيريا غفيرا، ذكّرنا بأيام مجد الثقافة العربية في زمن العقاد وطه حسين، حين كان أي تصريح أو حتى ملاحظة، يأخذ حقه كاملا من التفاعل والتأويل، كما حدث للملاحظات التي أبداها طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" التي سال في إثرها حبرٌ كثير، ما زال دفقه مستمرّا. امتلأ عن آخره مدرج ابن خلدون في كلية الآداب في جامعة محمد الخامس بالرباط. وهو مدرّج واسع أشبه بمسرح، وعلى الرغم من ذلك، لم يجد حضور كثيرون لهم مكانا بين الكراسي، فتراصّوا على سلالم المدرج ومداخله، ومنهم من اضطر إلى النكوص راجعا، لأنه لم يجد مكانا حتى للوقوف أمام فتحة الباب. وهي ليست المحاضرة الأولى للعروي التي يكون فيها الحضور احتشاديا، فقد حدث أمرٌ مشابهٌ تقريبا العالم الماضي، ولكن مدرج الشريف الإدريسي كان أصغر من مدرج ابن خلدون. ومع ذلك، كانت الممرّات والجوانب مليئةً بالجالسين والواقفين.
كانت المحاضرة هذه المرّة بسبب أن العروي حضر ليدشن في الكلية نفسها التي كان يدرّس فيها قبل تقاعده، كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، كرسيا علميا سيحمل اسم "كرسي عبد الله العروي للترجمة والتأويل". وقد ألقى محاضرة مهمة، وضمن ما قاله فيها "أتمنّى أن تكون روح ابن خلدون موجودة بيننا"، إلى جانب أنه دقّ ناقوس الخطر، وطنيا وعربيا، ومن أبرز ما خشي منه أن يكون المستقبل لسلطة القبيلة، وإحلال التفكير والشعور "الما قبل ثقافي"، أي العرقي والقبلي، مكان التفكير والشعور الوطني.
قال أحد المدوّنين عن المحاضرة التي امتازت بكثرة الحضور، إنه سوف يفاخر بها لأبنائه حين يكبرون، بأنه حضر لمفكّر كان الحضور لمحاضرته غفيرا لم يسع له مدرّج بحجم مدرج ابن خلدون. كما طالب آخر بضرورة مضاعفة طاقة استيعاب المدرّج وزيادة وبناء مدرّج ذي سعة مضاعفة. وقد حرّكت محاضرة العروي صفحات وسائل التواصل الاجتماعي عدة أيام، نظرا لعدد الحضور الملفت، وكذلك نظرا إلى رزانة المحاضرة وأهميتها وعمقها. كتب أحدهم أن أول ما يسجله عبد الله العروي عندما يحاضر، أو عندما يُصدر كتابا جديدا، وحتى عندما يخوض سجالا (ونادرا ما كان العروي يساجل) هو أنه يخلق الحدث، وأجزم أن العروي هو أكثر المفكرين العرب جماهيريةً وعزلةً في آنٍ.
والعزلة المقصودة هنا تفاعلية، وليست وحدة مرضية، أي عزلة الكاتب الذي يربأ بنفسه أن يكون مثل الآخرين. وفي سياق عزلة العروي، وهي مثمرةٌ وضروريةٌ لمفكر كبير في حجمه، هو ما سمعته عنه من أحد الأساتذة أنه لا يمتلك حتى هاتفا منزليا ثابتا، ناهيك عن الهاتف المحمول، وأن التواصل معه يتم عبر الفاكس فقط، حيث سيطالع الرسالة، ثم يرد عليها على مهل.
وأخبرني صديقٌ صحفي أنه كان برفقة فريق تلفزيوني فرنسي، بغرض عمل لقاء مع الأستاذ العروي في منزله، وكان الموعد العاشرة صباحا. ولكنهم وصلوا إلى المنزل في حدود العاشرة إلا ربع، وكان المفكّر في تلك الأثناء منشغلا في حديقة منزله، وقد رآهم واقفين، ولم يفتح لهم الباب إلا عند العاشرة. وفي سياق صرامة المفكر مع الوقت حكاياتٌ كثيرة، تبدو الواحدة منها أغرب من الأخرى. وفي سياق تحذير العروي، في محاضرته، من النزعات الطائفية والعِرقية والقبلية التي يخشى أن تسود الوطن العربي، اقتنيت، في اليوم نفسه، آخر إصدارات سعيد يقطين، وكتبه البحثية تتميز بالرصانة والعمق، جديدها "اللغة. الثقافة. المعرفة"، قرأت فيه بالمصادفة ما سيتساوق مع تحذير العروي في السياق العربي، إذ يكتب يقطين: "إننا أمام تحوّل كبير على المستوى الثقافي. لقد تبدّل الخطاب الثقافي العربي، وانتقل، على وجه الإجمال، من "الاجتماعي" العام إلى "الطائفي" الخاص، أي من "الوحدوي" و"الأممي" إلى "الإقليمي" و"الخصوصي". وصرنا أمام تحوّلات اجتماعية مغايرة، تذهب من أقصى التطرّف إلى أقصاه: من الحجاب التام للمرأة إلى الدفاع عن المثلية، وبعض الممارسات الخاصة لجماعات اجتماعية ضيقة".
قال أحد المدوّنين عن المحاضرة التي امتازت بكثرة الحضور، إنه سوف يفاخر بها لأبنائه حين يكبرون، بأنه حضر لمفكّر كان الحضور لمحاضرته غفيرا لم يسع له مدرّج بحجم مدرج ابن خلدون. كما طالب آخر بضرورة مضاعفة طاقة استيعاب المدرّج وزيادة وبناء مدرّج ذي سعة مضاعفة. وقد حرّكت محاضرة العروي صفحات وسائل التواصل الاجتماعي عدة أيام، نظرا لعدد الحضور الملفت، وكذلك نظرا إلى رزانة المحاضرة وأهميتها وعمقها. كتب أحدهم أن أول ما يسجله عبد الله العروي عندما يحاضر، أو عندما يُصدر كتابا جديدا، وحتى عندما يخوض سجالا (ونادرا ما كان العروي يساجل) هو أنه يخلق الحدث، وأجزم أن العروي هو أكثر المفكرين العرب جماهيريةً وعزلةً في آنٍ.
والعزلة المقصودة هنا تفاعلية، وليست وحدة مرضية، أي عزلة الكاتب الذي يربأ بنفسه أن يكون مثل الآخرين. وفي سياق عزلة العروي، وهي مثمرةٌ وضروريةٌ لمفكر كبير في حجمه، هو ما سمعته عنه من أحد الأساتذة أنه لا يمتلك حتى هاتفا منزليا ثابتا، ناهيك عن الهاتف المحمول، وأن التواصل معه يتم عبر الفاكس فقط، حيث سيطالع الرسالة، ثم يرد عليها على مهل.
وأخبرني صديقٌ صحفي أنه كان برفقة فريق تلفزيوني فرنسي، بغرض عمل لقاء مع الأستاذ العروي في منزله، وكان الموعد العاشرة صباحا. ولكنهم وصلوا إلى المنزل في حدود العاشرة إلا ربع، وكان المفكّر في تلك الأثناء منشغلا في حديقة منزله، وقد رآهم واقفين، ولم يفتح لهم الباب إلا عند العاشرة. وفي سياق صرامة المفكر مع الوقت حكاياتٌ كثيرة، تبدو الواحدة منها أغرب من الأخرى. وفي سياق تحذير العروي، في محاضرته، من النزعات الطائفية والعِرقية والقبلية التي يخشى أن تسود الوطن العربي، اقتنيت، في اليوم نفسه، آخر إصدارات سعيد يقطين، وكتبه البحثية تتميز بالرصانة والعمق، جديدها "اللغة. الثقافة. المعرفة"، قرأت فيه بالمصادفة ما سيتساوق مع تحذير العروي في السياق العربي، إذ يكتب يقطين: "إننا أمام تحوّل كبير على المستوى الثقافي. لقد تبدّل الخطاب الثقافي العربي، وانتقل، على وجه الإجمال، من "الاجتماعي" العام إلى "الطائفي" الخاص، أي من "الوحدوي" و"الأممي" إلى "الإقليمي" و"الخصوصي". وصرنا أمام تحوّلات اجتماعية مغايرة، تذهب من أقصى التطرّف إلى أقصاه: من الحجاب التام للمرأة إلى الدفاع عن المثلية، وبعض الممارسات الخاصة لجماعات اجتماعية ضيقة".
دلالات
محمود الرحبي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
محمود الرحبي
مقالات أخرى
04 نوفمبر 2024
28 أكتوبر 2024
21 أكتوبر 2024