عبد الكريم غرايبة

13 يوليو 2015
(عمان: منشورات جامعة العلوم الإسلامية العربية، 2014)
+ الخط -
مرّت أخيراً الذكرى الأولى لوفاة المؤرخ عبد الكريم غرايبة، أحد المؤسّسين لقسم التاريخ في جامعة دمشق حيث نشر أشهر مؤلفاته خلال عمله هناك، وكان من طلابه أعلام المؤرخين في بلاد الشام (خيرية قاسمية وعلي محافظة وعبد الكريم رافق وغيرهم)، وأحد الرواد في استخدام سجلات المحاكم الشرعية في كتابة التاريخ الحديث، ثم من المؤسسين لقسم التاريخ في الجامعة الأردنية في 1962، حيث أطلق فكرة تأسيس "لجنة تاريخ بلاد الشام"، التي عقدت أول مؤتمر دولي لها في 1974. ولكن غرايبة لم يحظ بما حظي به طلابه لكونه كان يغرّد خارج السرب بأفكاره ومنهجه وتمرده على التاريخ الرسمي، وآثر أن يقدم في أواخر حياته 2012 أكثر من مئة ألف وثيقة عمل عليها منذ 1948 باسم "وقفية عبد الكريم غرايبة"، لتوضع بين أيدي الباحثين الشباب.

ولد عبد الكريم غرايبة في قرية المغير قرب إربد بشمال الأردن في 1923، أي بعد سنتين فقط من وصول الأمير عبد الله بن الحسين إلى عمّان وتشكّل إمارة شرق الأردن، بينما كان جدّه شحادة قد انتقل من قرية طمّون بشمال شرق فلسطين إلى شرق الأردن ليستقر هناك ويهتم بتنشئة ابنه محمود. وقد برز والده في إدارة الإمارة الجديدة بشرق الأردن وأصبح رئيساً لبلدية إربد في عام 1939، ولذلك فقد اهتم بابنه عبد الكريم وأرسله إلى الجامعة الأميركية في بيروت لدراسة الطب في 1942. ولكن روح الغرايبة المشاغبة لم ترتح لدراسة الطب، فانتقل لدراسة التاريخ ليتخرج من قسم التاريخ في صيف 1947. وقد حصل بصدفة يذكرها هو نفسه على منحة حكومية لإكمال دراسته العليا في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، حيث أشرف على رسالته للدكتوراه "التجار الانكليز في سورية 1744-1791"، البرفسور برنارد لويس التي ناقشها في أواخر 1950.

استفاد غرايبة من خبرة مشرفه في البحث لأجل كتابة رسالة الدكتوراه، حيث كان رائداً في العمل على مراسلات التجار الانكليز المحفوظة في المتحف البريطاني وعلى الوثائق في مكتب السجلات العامة، كما كان رائداً في استخدام سجلات المحاكم الشرعية في رسالته للدكتوراه، وهو الأمر الذي أصبح يميّز لاحقاً المدرسة الشامية في التاريخ الحديث.

ومع عودته إلى عمّان في أوائل 1951، اشتغل مفتشاً في دائرة الآثار الأردنية، ولكن شغفه بالتعليم الجامعي تحقّق مع عرضين تلقاهما في صيف 1951 من الجامعة الأميركية ببيروت وجامعة دمشق ففضّل الثانية، حيث بقي يدرّس فيها حتى نهاية عهد الوحدة. وخلال تلك السنوات، نشر غرايبة مؤلفاته التي اشتهر بها، مثل "مقدمة تاريخ العرب الحديث" (دمشق 1960)، و"العرب والأتراك" (دمشق 1960)، و"سورية في القرن التاسع عشر" (القاهرة 1962). وخلال عامي 1961 ـ1962، عمل أستاذاً زائراً في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، والتي كان من نتاجها كتابه القيّم "قيام الدولة السعودية الأولى" (القاهرة 1973).

ومع تأسيس الجامعة الأردنية في 1962، استدعي غرايبة ليكون أول من تعيّن في هذه الجامعة، حيث كان الأردني الوحيد الذي يحمل شهادة الدكتوراه في التاريخ، وأصبح في 1966 عميداً لكلية الآداب فيها. وفي غضون ذلك استمر في البحث والتأليف وأصدر عدة مؤلفات، مثل "تاريخ العرب الحديث 1780-1925" (بيروت 1984)، ولاحقاً "عرب الماء والإنسان" (2006)، و"نحن وأمريكا"(عمان 2008)، وغيرها، على حين لم تترجم ولم تنتشر للأسف رسالته للدكتوراه "التجار الإنكليز في سورية 1744-1791"، على الرغم من قيمتها العلمية التي لا تزال راهنة.

وإلى جانب هذه المؤلفات، يمكن القول إن روح الغرايبة ورياديته هي واضحة في بلاد الشام، سواء في ما أسّس له من مبادرات أو من خلال طلابه الذين تابعوا عمله في توظيف سجلات المحاكم الشرعية في كتابة التاريخ الحديث لبلاد الشام.

فمن طلابه في جامعة دمشق كان المرحوم عبد الودود برغوث، الذي نشر في 1966 دراسته الرائدة "تاريخ حماة الاجتماعي والاقتصادي والإداري مستمداً من سجل المحكمة الشرعية لعام 989 هـ/ 1581"، كذلك عبد الكريم رافق، الذي بدأ منذ كتابه "العرب والعثمانيون 1516-1916" (دمشق 1974)، باستخدام سجلات المحاكم الشرعية وأصبح لاحقاً من أشهر المؤرخين في هذا المجال. ومن طلابه الأردنيين لا بد أن يشار في هذا المجال إلى عبد العزيز عوض، الذي استفاد من سجلات المحاكم الشرعية في رسالته للماجستير "الإدارة العثمانية في ولاية سورية 1864-1914" (القاهرة 1967)، وأكرم الراميني، الذي ناقش عام 1974 بقسم التاريخ في الجامعة الأردنية أول رسالة ماجستير معتمدة بالكامل على سجلات المحاكم الشرعية "نابلس في القرن التاسع عشر: دراسة متخصصة من سجلات المحاكم الشرعية بنابلس".

ومن ناحية أخرى، عُرف غرايبة بعدم ميله للتاريخ الرسمي. ويذكر هنا أنه بعد عودته إلى عمان في 1951، أخذه أبوه إلى مقر الملك عبد الله بن الحسين للسلام عليه، فأراد الملك أن يختبره بعدما عرف أنه عاد بشهادة دكتوراه في التاريخ وسأله: "من هو السلطان العثماني الثالث عشر؟"، فردّ عليه، مع أنه يعرف الجواب: "لا أعرف. إننا لا نهتم بالملوك والسلاطين، بل نهتم بالشعوب". لاحقاً اعتبر غرايبة أن التواريخ الرسمية في الدول العربية تثير الشعوب بعضها ضد بعض لأنها موضوعة لخدمة أنظمة، ولذلك أخذ يدعو إلى استلهام التجرية الاسكندنافية ووضع تاريخ واحد لدول المشرق. وفي هذا السياق، رأى أن تكون البداية مع بلاد الشام، حيث اقترح تأسيس هيئة مرجعية تقوم بالبحث في تاريخ بلاد الشام ككل واحد، وهو ما تمخّض عنه تشكيل "لجنة تاريخ بلاد الشام" في 1972 التي أخذت تعقد بشكل دوري المؤتمرات الدولية منذ 1974 وتصدر المؤلفات التي تتناول تاريخ بلاد الشام ككل واحد.

وإلى جانب ذلك، كان غرايبة من الرواد في التنبّه إلى أهمية البحث في العلاقات التاريخية بين العرب والأتراك، بعد أن توترت العلاقات السياسية بينهما خلال القرن العشرين. فبعد أن أصدر في 1960 كتابه الرائد "العرب والأتراك"، أخذ يهتم بتوثيق الصلة مع المؤرخين الأتراك وبضرورة تعلّم اللغة العثمانية وتأسيس مركز للدراسات العثمانية لخدمة تاريخ العرب الحديث. وفي هذا السياق، زار استانبول في 1970 حيث بدأ بتعلّم اللغة العثمانية، وتعرّف هناك على المؤرخ العربي التركي خليل ساحلي أوغلو، الذي جاء لاحقاً للعمل في الأردن. وبعد عودته إلى عمان، بادر إلى تأسيس مركز للدراسات العثمانية في الجامعة الأردنية وإيفاد ثلاثة طلاب لدراسة اللغة العثمانية إلى استانبول.

وبعد تقاعده من الجامعة الأردنية في 2012، تفرّغ تماماً لمشروعه الذي يتضمن أرشفة ما جمعه من وثائق لتكون في خدمة الباحثين الشباب، حيث تحمّست لهذا المشروع جامعة العلوم الإسلامية العالمية بعمان التي جعلت منه "وقفية عبد الكريم الغرايبة" وجعلت له مكتباً في الجامعة ليتابعه، وعيّنت مؤرخاً (عبد المجيد الشناق) وباحثتين للعمل لإنجاز هذا المشروع.

وقد أحسن الشناق بإعداد كتاب عنه باعتباره "مؤرخاً عربياً" ويتضمّن سيرة حياته ومقابلاته معه حول القضايا التاريخية والمنهجية وبعض أبحاثه وما كتبه عنه طلابه الذين غدوا رؤساء جامعات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن غرايبة يعترف في ذكرياته المنشورة في الكتاب (ص 114) بأنه أختار أولاً عهد الأمير فيصل في سورية (1918-1920) موضوعاً لرسالة الدكتوراه، ولكنه أقلع عن ذلك بناءً على نصيحة من السفير العراقي في لندن، الأمير زيد بن الحسين، تقوم على أن "الفتنة نائمة ولعن الله من يوقظها".

عاش الغرايبة عمراً عاصفاً بالأحداث (1923-2014)، وعايش "الربيع العربي" متشائماً من حكم العسكر ومن تسييس الدين، وكتب عن ذلك محذراً "خير ما نتمناه للأمة العربية في هذا الوقت العصيب هو أن لا تسلّم أمورها إلى زعيم أو جيش أو حزب عقائدي".

(أكاديمي كوسوفي/ سوري)
المساهمون