عبد الكريم الطبال: قتل الأب هو قتل للتاريخ وللإبداع

12 أكتوبر 2015
الشاعر المغربي عبد الكريم الطبال
+ الخط -
* أنت لا تسافر خارج شفشاون إلا في ما ندر، أمِنْ سرٍّ وراء علاقتك بهذا المكان وانجذابك إليه؟

هذا هو الشيء الذي لا أستطيع تفسيره. لِنَقُلْ هي علاقة غصنٍ بالشجرة، وماءٍ بالغيمة، لا غنى لأحدهما عن الآخر. كلما سافرت خارج شفشاون أكون على أحرّ من الجمر للعودة إليها. أينما كنت غائبًا عنها، فهي حاضرة معي. إنها علاقة بنوّة خاصة. وأتذكر أنّه في عام 1969، سافرت مع وفد اتحاد كتاب المغرب إلى ليبيا، وهي وقتئذ في آخر أيام حكم الملك إدريس السنوسي، وطال بي الوقت حتى اشتقت إليها. ولما ركبنا الطائرة قافلين، سألني الشاعر حسن الطريبق: "فيمَ نفسك بعد عودتنا؟" قلت له (وقد ندّتْ عنه ضحكة عفوية): أريد أن أجد أوّل سيارة في المطار تُقلُّني مباشرة إلى شفشاون.

* في سيرتك الذاتية "فراشات هاربة" (الرباط، 2007)، تستعيد طفولتك في شفشاون، وطفولتك مع الشعر والأحلام. ماذا تعني لك هذه الطفولة المستعادة؟

الإنسان، حسب تصوُّري، يبدأ طفلًا وينتهي طفلًا في حياته كلها. وهو عندما يلد ولدًا وينظر إليه، فإنّما ينظر إلى ذاته هو. والجدّ إذ ينظر إلى حفيدته فهو ينظر إليه فيها. وولد الابن أعزّ من الابن نفسه، لأنه أقرب منه إلى عهد الطفولة. وهكذا، فالطفولة مستمرة. بالنسبة إليّ، أحاول باستمرار استعادة الطفولة في شعري من أجل أن أحياها من جديد، ومن أجل أبعث ذاتي من رفات النسيان. فالأشياء والكائنات والأحاسيس والأفكار في زمن الطفولة الضائعة ذات بريق خاص، وذات دلالات سحرية معينة، وذات نكهات روحانية غريبة. ثم تتحول هذه كلُّها بعد موت زمن الطفولة إلى طبائع جديدة، ليس لها من السحر ما كان، فيضطر الشاعر بعد ذلك إلى التعلّق بالوهم، أو إلى الاستنجاد بالخيال حتى تظلّ كما كانت في طبائعها الأصلية الأولى. إن الاستعادة، إذن، هي حاجة وجودية من أجل الحياة في طبيعتها الفطرية.

اقرأ أيضًا: حساسيات جديدة في الشعر المغربي المعاصر
* وماذا عن علاقتك بالبيت الأوّل الذي قضيت فيه طفولتك، وبالأم سيدة البيت؟

في ذلك البيت البعيد القريب في "عقبة السوير"، ببابه الذي يصرُّ، وببئره التي تتوسّط الباحة، وبعريشته الوردية، وبمخزونه المعيشي البسيط، ووسط مناخ مشحون بالمشاعر والأخيلة والأحلام، عاش الطفل الأسمر النحيل علاقة وجدانية متواشجة بينه وأمّه وأبيه. ولم يكن له من الأصدقاء في أوّل الأمر سوى ذلك القط الأشهب الذي سيذوق معه طعم المعاشرة الروحية، قبل أن تتوطّد علاقته بلداته في الدرب القريب حيث يمتدّ برنامج اللعب إلى آخر النهار. وكان هذا البيت يعكس، بحقّ، ذلك التمازج الطبيعي الإنساني الفريد.
بالنسبة إلى العلاقة بيني وبين أمي، فقد عبّرت عن نفسها بشفافية، فكانت في سنواتي الخمس الأولى تحرص على أن تلاطفني بالغناء وتحكي لي قصصًا عن الجنّ وأصحاب الخوارق، وتعمد تمطيط الحكي والإغراب فيه إلى أن أنام. كما كانت تصطحبني معها إلى مواسم الأولياء. ولا أذكر أنني تعرضت منها يومًا إلى عقاب شديد جزاء ما اقترفه من شغب وشيطنة إلا مرة وحسب. وأحسب أن علاقاتي بغيرها كانت مجرد علاقات مع صورها وخيالاتها أو مع مراياها العاكسة لها، فالانجذاب إليها كان عميقًا وعميقًا حتى أن البيت بدون حضورها كان يفقد المعنى. وكان أبي رحمه الله مثلي- فيما أظنُّ - واقعًا تحت طائلة سحرها وجاذبيّتها التي لا تقاوم. وربما كانت لشخصيتها بمقوماتها الروحية ذات تأثير أعمق عليّ.

* من سنّك السابعة أخذ وعيك ينطلق خارج عالمه الصغير المحجوز بين الغدير والكُتّاب والعقبة، حتى جاء سفرك إلى خارج شفشاون، إلى فاس ثم تطوان لمتابعة دراستك ومن ثَمّ الانخراط في حياة ثقافية واعدة. كيف تتذكر بعض أطوار هذه الرحلة التي ستحدّد فيما بعد وجودك الشعري؟

كانت فاس أوّل وجهة لي للتعلُّم والتحصيل، وكنت أتردّد في محيط جامعة القرويين على مكتبات أشبعت نهمي من الأدب العربي القديم والجديد، عبر مطالعة دواوين ومجلات مشرقية ومغربية أذكر منها ؛ الأديب، والآداب، والأنيس. وأذكر أني عثرت على كتاب "دمعة وابتسامة" لجبران خليل جبران في المكتبة الخاصة لعلال الفاسي، ولا أدري هل ما أقرِأه شعر أم نثر، والذي دريته هو أن هذا المكتوب رائع يستحق أن يُقرأ مرّاتٍ حتى يحفظ. كما قرأت للشابي، وميخائيل نعيمة، وعلي محمود طه، وخليل مطران، وزكي أبي شادي، وألبير أديب ونسيب عريضة وآخرين. وكنت أبعث بمحاولات شعرية إلى هذه المجلة وتلك، حتى نشرت لي مجلة "الثريا" قصيدة "كيف أبتسم" فكدت أطير فرحًا وأتيه زهوًا في ساحة مدرسة الصفارين. وما كنت أقرأه من أدب المهجر كان يزكي تبرُّمي مما كنت أقاسيه في حياتي المعيشية وما يعانيه الوطن من احتلال، حتى وقعت النكبة في فلسطين فاكفهرّت الحياة في وجهي. ولا يبقى لي ولسواي إلا الانكفاء عن هذا الواقع أو هذا العالم بجملته، وقد اخترت أو اختارني الواقع لأنتسب إلى صفِّ الشاعر.
ولما قدمت إلى تطوان وجدْتُ مناخًا ثقافيًّا أكثر انتعاشًا ونشاطًا، ورأيت أن سلطة الاحتلال الإسباني كانت تشجع على هذا المناخ، وبدت لي في هذا الشأن مختلفة عن سياسة الاستعمار الفرنسي. فالحركة الشعرية بدأت بالبروز، والمجلات الأدبية تتنافس فيما بينها، وكان في مقدمتها مجلة "المعتمد" لصاحبتها الشاعرة الإسبانية، ترينا مركادير، التي نشرت لي فيها قصيدة قصيرة تحت عنوان "يا رياح"، وردّت علي برسالة جوابية قليلة الكلمات، لكنّها فعلت في ما تفعله نافثات العقد. ولكنّها ضاعت منّي كما ضاعت صورة أبي. وقد ارتبط مقامي في تطوان بقراءة الأدب الأندلسي في مكتبة مولاي الحسن التي كان يديرها محمّد بن تاويت. ومما قرأت من هذا الأدب، أذكر كتابي "نفح الطيب" للمقري، و"الذخيرة" لابن بسّام، وشعر ابن سهل، وابن عمّار الذي كنت معجبًا بشعره وكتبتُ عنه مسرحية وقتئذ. ومن أعلام تطوان كنت متأثِّرًا بالشاعر، إبراهيم الإلغي، مثلما تعرّفتُ على محمّد الصباغ عن بعد، وكنت أجلُّه وأهابه، قبل أن يكون بيني وبينه رسائل كثيرة بخطّ يده الجميل.

اقرأ أيضًا: الشعر المغربي شغف لغوي؟
* تفاعلت هذه القراءات مع المصدر الروحي والطبيعي الذي حملته معك من شفشاون، ثُمّ تاليًا مع المرجع الصوفي الذي تشبّعت به، وهو ما أشاع في كتابتك الشعرية، ابتداءً من عقد السبعينيات، وبعد ديوانيه الأوّلين "الطريق إلى الإنسان" (1971)، و"الأشياء المنكسرة" (1974) تحديدًا، مناخًا روحيّاً يقوم على جدلية البوح والسؤال. لِمَ انحزْتَ مُبكّرًا إلى كتابة الذات ولم تقع في شرك الأيديولوجيا الحزبية الذي وقع فيه عددٌ من مُجايليه؟

بالفعل، فتحتُ عيني على طبيعة أخّاذة ومحيط صوفي يأتلف من جوامع وزوايا، فانجذبت إلى سحر الطبيعة وارتدت مجالس الذكر والتصوف؛ وأوّل ما طالعته من الكتب كان "دلائل الخيرات" للجزولي، وديوان الشيخ الحلبي الذي يتألف من نصوص غزلية في مدح النبي محمّد. وهكذا أصبح الطفل الذي كنته مهيَّأ للتأثر بكل ذلك واستقبال ما يرد عليه من الانطباعات والواردات المتنوعة، فوجد في نفسه ولا وعيه صدىً عجيبًا ومثمرًا، وميلًا إلى التأمّل والعزلة. إلا أنّ حدثًا بارزًا هو الذي حسم إلى غير رجعة في خياري الكتابي؛ ففي عام 1959، وبعد الانشقاق الذي وقع في حزب الاستقلال وظهور اليسار المغربي، لست أدري ماذا حدث لي، وأنا وقتذاك داخل الزُّمرة الرومانسية. لقد حدث انشقاقٌ عندي في داخلي، ومن ثمّة تغيُّر في مفهومي للكتابة. فتحت عيني أكثر على الواقع وخارج الذات، ثم سرعان ما أخذت أمزج أكثر بين الذات والواقع. فقد كنت أتوقّع كأيِّ مواطن أن يكون المغرب بعد الاستقلال أجمل. ولكن، مع الأسف، كان مُخيِّبًا للآمال. فالانشقاق الذي وقع في حزب الاستقلال إذًا، هو الذي أوحى إليَّ بهذا. قال لي: اِفتحْ عينيك، ليس هذا هو الاستقلال، وليس هذا هو الذي كان يدعو إليه عبد الكريم الخطابي. هذا مغرب آخر!
هكذا انبثقت جراح الذات، فانفصلت الذات إلى ذاتين: ذات في الماضي وذات في الحاضر، واستمرّتا في ذلك الاحتكاك إلى أن وقعت النكبة الفلسطينية وما تلاها من الانهيارات الكبرى في العالم العربي، فقلت في نفسي: كفى، سأعود إلى بيتي الأوّل، إلى الذات. في الذات رأيتُ، وسمعتُ، وتكلّمتُ، ولا أزال. وفي الذات وجدْتُني بمعيّتي آخرين كثيرين: ابن عربي، والسهروردي، وجلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وشمس الدين التبريزي. قالوا لي: "اِنْزِلْ ضَيْفًا علينا"، ونزلت ضيفًا عليهم. أستمع إليهم، وقد يستمعون إليّ. ولا أزال في هذا المحراب إلى الآن.

* داخل هذه الكتابة، ثمّة تآلفٌ بين الهمّ الجمالي والواجب الإنساني على نحو يعيد تسمية الأشياء ويرقى بالذائقة الفنية والقاموس الشعري. والأهمُّ أن هذا الفعل الشعري كان يتمُّ بأسلوب شعري بسيط لا غموض فيه ولا تعقيد، مما يجعل تأثيره في القارئ متحصِّلًا وفاعلًا. كيف انتبهتَ إلى هذه العلاقة بين القصيدة ومتلقِّيها؟

أظنُّ أن أيَّ شاعر عندما يكتب لا يكتب للآخر، بل يكتب لنفسه. وحين يكتب الإنسان لنفسه، فهو يكتب بلغة يفهمها، لغة بسيطة. أنا حينما أكتب لي لا أفتعل، أتكلَّم معي بوضوح. أكتب بلغة بسيطة، لغة تشبهني. أنا في حياتي بسيطٌ كل البساطة، وفي علاقاتي بسيط كل البساطة. تجمعني بالأشياء في حياتي وعلاقاتي هذه البساطةُ في عمقها وصفائها. ولهذا، تتميز كتابتي بهذا الصفاء وكأنّ الطفل الذي كنته ما زال حاضرًا يسكنني ويوجّهني على نحو ما، الطفل المندهش بالعالم. فالأشياء التي أكتب ليست هي الأشياء التي أعرف. أنت عندما تمرُّ بالشارع صباحًا، فإن هذا الشارع ليس هو نفسه في المساء. دائمًا أتأمل في الأشياء، أي أراها مختلفة عمّا هي عليه في الأوّل. أحيانًا، تدهشني أشياء ألفتُها كثيراً، أراها فتدهشني، وكأني أراها لأوّل مرة. أذكر مرّةً أني كنت في المقهى ظُهْرًا، وإذا بزوجين حضرا إليه ومعهما طفلة، وجلسا بعيدًا مني. أنا صبّتْ عيني على تلك الطفلة - أحبّ الأطفال كثيرًا- ابتسمت لي ابتسامةً دوّختني، وازدادت دَوْختي حينما انصرفت مع والديها وهي تلتفت إلي وتُلوّح. الطفلة كأي طفلة، والإشارة كأي إشارة، والبسمة كأي بسمة؛ إلا أني رأيت فيها ما لم أرَهُ من قبل إلى حدّ الآن، وقد مرّت سنونٌ ولا تزال الطفلة طيَّ البال بابتسامتها وتلويحتها. فالأشياء كلُّها "مشعرنة"؛ إذا تأملت فيها وجدتها أخرى، وليست هي نفسها. فالدهشة دائمًا حاضرة عند الشاعر، وهي السؤال، وهي النبع، وهي الساقية. من دون دهشة نكتب أشياء عادية ومكرّرة، أشياء من متردّم كما قيل قديمًا. الدهشة هي الشعر، كما الفلسفة لن تكون كذلك لولا فعل الدهشة.

* هل يمكن القول إن عبدالكريم الطبال كان بالأحرى يكتب سيرته الذاتية شعريًّا؟

أكتب عن ذلك الطفل الذي كبر وظلَّ طفلًا، والذي شاخ وظلَّ طفلًا. وخلال كل هذه المرحلة، ساح وتاه وضلَّ، فكتب عن هذا التيه، إلى أن استضاء بالشمس فكتب عن الإيمان والإحسان. هذه هي السيرة: سيرة إنسان وجد نفسه عاريًا في الغابة، ثم خرج إلى الشمس فاستضاء بالنور. وهو- كما هو - مختلطٌ بالبدء والوسط والختام، أي أن مرحلة النور ليست منفصلة عن مرحلة التيه ومرحلة الشمس، ففيها شيء من هذا وذاك وإن قلَّ.

* من أين تشرّبت هذا الإيقاع الذي يتدفّق كما الماء في شعرك؟

الإيقاع في الشعر تعلّمتُه من قراءاتي للشعر العربي، وهو غير الإيقاع الذي كان يتأتّى لي من إيقاع الحياة في هدأته أو صخبه، متصاديًا مع ما في النفس من ذبذبات ومتواليات لا متناهية. تجدني في شعري منسابًا كما الماء أو الهواء الذي فينا ومن حولنا، ولست أكتب من أجل الإيقاع. فإذن، الإيقاع هو معرفة ونظام داخلي.

* وهذه الحرفة في الدقة والأناة من أين تعلَّمها كأنّك تكتب بالميليمتر؟

حينما تكتب، فانتظرْ أن تكتبك الكلمة قبل أن تكتبها. الكتابة عندي هي عملية مشتركة بيني وبين الكلمة، أطيعها وتطيعني، لا أرفض لها طلبًا، وهي لا ترفض لي طلبًا إلا أحيانًا، إذ قد تتمنّع فأجري وراءها وأجرُّها من ذيلها إليّ. الكلمات لها سحرها الذي لا يبطل. أحيانًا وأنا أقرأ، تقول لي كلمةٌ في الكتاب: "إلى أين؟ ابقَ هنا، أنا سأحدِّثك. أنا سآخذ بيدك. أضع يدي في يدها، فتمشي بي إلى قصيدة. وقد يحدث أن أستبدل كلمة بكلمة إذا كانت أنسب للفكرة الشعرية.

* هل لديك طقوس معينة في الكتابة؟

- لا ترتيب مسبّقًا لدي لكتابة القصيدة التي تأتي عليّ على حين غفلة منّي. هذا الصباح، وأنا في المقهى، ورد عليّ خاطرٌ عن حفيدتي وهي تبتسم، فكتبت شذرة عنها. إلا أنّ الكتابة في تصوُّري تقوم على مُقوِّمين رئيسين، هما: المعرفة التي تتاح لي من جماع تأمُّلاتي وقراءاتي، والتجربة الداخلية التي هي امتدادٌ طبيعي لها وعوْنٌ عليها.

* تمتدُّ تجربتك الشعرية على ما يقرب من ستة عقود، فأحببت أن أستطلع رأيك إن كان راضيًا عن النقد الذي من المفترض أنّه واكب هذه التجربة وتتبّع تطوُّر مسارها الخصيب؟

هناك نقد ونقد: نقد يهتمُّ بشكليات القصيدة ويُغيب النص، ونقد يتعامل مع النص وليس مع الشكل. قرأت الكثير من الكتابات النقدية التي كُتبت عن تجربتي، بعضها جميلٌ جدًّا، وبعضها الآخر إجرائي مدرسي وهو الغالب. ولكن لا أقول إنّي استفدت من هذا النقد، أو إنّي اعتمدت على رأي أحدهم فيه، بل أنا أعتمد على نفسي وفق ما تمليه عليَّ حواسي وخبرتي وقناعاتي. إلا أنّه لم يحصل أن اصطدمت مع من قد يكون تحامل برأيه عليّ وعلى شعري، فأنا أقرأ ما يُكتب عني برضى نفس لا أقل ولا أكثر.

* مع ذلك، لم ينصفك النقد ضمن شعراء الستينيات، حتى أن بعض الكتابات النقدية كانت تحجب الفعل الشعري الذي كرَّسه هذا الجيل الشعري؟

النقد شُلَليٌّ، ومعظمه ترعرع في الجامعة. فالشعراء الذي كانوا يُدرِّسون في الجامعة، كان لهم تلاميذ وأتباع وأصدقاء يكتبون عنهم. أما الذين لم يدرسوا في الجامعة، فقد هُمِّشوا مثل محمّد الميموني. وبعض هذا النقد الذي ترعرع في الحزب، ومثال ذلك ما أقدم عليه حزب مغربي عندما أصدر كتابًا نعت فيه أحمد المجاطي بأنّه "شاعر المغرب"، لأنه من الحزب، أما نحن فلنذهب إلى حال سبيلنا. ولكن، لا يَهُمّ.

* يعرف عنك أنّك متتبع وقارئ جيد لمسيرة الحداثة في الشعر العربي. هل تثق في المنجز الفني والجمالي للشعر، ولقصيدة النثر تحديدًا؟

الشعر العربي اليوم في تمام النضج، في العراق وسورية ولبنان ومصر والمغرب وتونس. وأما قصيدة النثر، فهي شكل من أشكال الشعر، ظهرت في الشعر العربي تحت تأثير الشعر الأوروبي مترجمًا أو في لغاته الأصلية. وشعراء قصيدة النثر منهم الجيّدون مثل وديع سعادة، وأنسي الحاج وبسام حجار، تمثيلًا لا حصرًا، ومنهم دون ذلك.

* وماذا عن الشعر المغربي؟

من الشعراء المغاربة الذين يستأثرون باهتمامي على اختلاف حساسياتهم ورؤاهم، أذكر: محمّد علي الرباوي، حسن الأمراني، مصطفى الشليح، أحمد بلحاج آية وارهام. ومن شعراء قصيدة النثر: مبارك وسّاط، وحسن نجمي. ومن الشاعرات في المغرب : صباح الدبي، وعائشة البصري، وإيمان الخطابي، وفاتحة مرشيد، ووداد بنموسى، وهند بنيس وسكينة حبيب الله. أما بخصوص شعراء التجربة الجديدة، ففي تقديري- حسب متابعاتي المستمرة - أنّ هذا الحراك الشعري الجديد تتقدّمه أسماء مشعة لا يخفى ضوؤها حتى عن الأعشى. وعلى هؤلاء الأمل في العزف الرحب الرخيم العميق الذي يعلو على كلّ نشاز.

* وماذا بخصوص جدل الأشكال الشعرية الذي يُثار بين حين وآخر؟

القضية في ما أرى ليست في اختلاف قصيدة النثر عن قصيدة التفعيلة أو عن القصيدة العمودية، فننسب الحداثة إلى هذه ونسحبها عن تلك، بل إن القضية أساسًا في جوهر الشعر الذي هو كامنٌ في اللغة، ومن قبل ذلك كامنٌ في الرؤيا. هنا الاختلاف بين الشعر وسواه، بين الحداثة والقدامة.

* لكن داخل هذا الجدل نسمع كثيرًا بمقولة "قتل الأب".

هذا خطأٌ ذهنيٌّ. إذا أنت قتلت الأب فمن سيتكفّل بك، ويرعاك منذ ولادتك؟ قتل الأب إنّما هو قتل للتاريخ، وقتل للإبداع. من يقولون بهذه المقولة، من هؤلاء، فهم فاشلون، فالذي لا يقرأ لمن سبقه من الشعراء لن يتعلَّم شيئًا.
المساهمون