السيقان المتدلية مثل الذبائح، أو مثل شرائح لحم معروضة للشمس، تبدو وكأنها الجزء الوحيد القادر على البوح في الجسد، في مسعى لتسكين الألم في بقية أجزائه. تلك هي العلامة المثيرة للانتباه التي يقترحها الفنان التشكيلي المغربي عبد القادر المليحي على زوار معرضه "حركات"، الذي يحتضنه "رواق محمد الدريسي للفن المعاصر" في مدينة طنجة، شمال المغرب.
يضم المعرض، الذي يُختتم اليوم، أكثر من عشرين عملاً فنياً، بمقاسات مختلفة، أُنجزت على قماش وورق ياباني. أعمال تحتفي جميعها بما يمكن أن يحيل إلى الأقدام والسيقان المشدودة إلى أعلى، بما تحمله من معنى.
إنها أطراف تبدو كما لو أنها فُصلت للتو عن أجسادها الغامضة، من دون أن تفقد ما ينم عن احتفاظها ببقية روح وبعض الحركة اليائسة. أجساد متيبّسة لأشخاص جوعى، تعكس تلك اللمسة الفنية التي أصبغها عليها المليحي (1966)، حتى تبوح بانتمائها إلى زمننا الراهن؛ زمن تزفه الحروب إلى الفناء، وتلتهمه الأوبئة.
تظهر السيقان المعروضة فاقدة لكل وجهة، متداخلة ومتشابكة ومستسلمة لمصيرها. هي مجرد سيقان لا تكاد تلامس الأرض. ومن هنا جاءت لتحتل منطقة المابين؛ إذ أنها مشدودة في الفراغ، بما يشبه الأمل المرتفع والمتخفي أعلى اللوحة، وفي الوقت نفسه، تظل غير قادرة على ملامسة حرارة الأرض، مكان الإقامة، إن كان في الحياة أم في الموت.
وربما يحيل وضع هذه الأطراف، كما تعكسها الأعمال المعروضة، إلى تلك الخفة التي تميز روح الراقص البارع، إذ تكاد أقدامه، في لحظة الاندماج مع الحركة، ألا تلامس الأرض، لكنها، في المقابل، لا تقوى على السموّ كثيراً أعلى منها.
يذهب هذا التوجه بمخيّلة المتلقّي إلى التفكير في مشهدٍ يصعب تفاديه: النصف الأعلى من أجساد أصحاب هذه السيقان، ووجوههم، و"حركاتهم"، التي لا يقتطع المليحي إلا الساكن والثابت منها، رغم أنها تبدو أطرافاً نحيفة، وذات حركات كثيرة، أدت إلى ذوبان العضلات فيها. لعلّ هذا الهاجس الذي قد يُراود المشاهد، سيطرق أبواب التأويل لمحاولة قراءة ما لم يُرسَم، ليمتد الفعل التشكيلي، مع مخيلة المشاهد، إلى خارج كوادر اللوحة.
من هنا، نستطيع قراءة خلفية الإهداء الذي استهل به عبد القادر المليحي دليل معرضه، والذي يختزِل هذا التوجه بكلمتين فحسب: "إلى الإنسانية". إنها إشارة تحمل من الدلالات ما يُشعر قارئها، ومشاهد المعرض في الوقت نفسه، بالقسوة التي تختزلها، والألم الذي يملأها.
وما يدفع إلى الذهاب في مسعى هذا التأويل إلى أقصى وأقسى مداه، هو أنّ جل الأعمال المعروضة اختارت أن تقدم نفسها ممهورة باللونين الأبيض والأسود، ليختزلا كل الألوان، من جهة، كما أنهما يعبّران، من جهة أخرى، عن لمسة متقشفة تعكس، في العمق، سعي الفنان إلى إسماع صرخته المكلومة أمام فظاعات العالم وحيادية مشاعره، متجنّباً الثرثرة اللونية السهلة والمجانية.