يكفي أن تقول "شيخ المحققين" لأي مُطَّلعٍ على الكتب التراثية في ثقافتنا حتى يعرف أن المعنيّ عبد السلام هارون، فالرجل - الذي قلما يجري تداول اسمه في الصحافة - أشهر من نار على علم في أوساط المحققين ودارسي المخطوطات العربية. ولم يأت اهتمام هارون (1909 - 1988) بالمادة التراثية من فراغ، فهو ابن أُسرة احتلَّ أفرادُها من المعارف الفقهية واللغوية مرتبةً عليا.
وإلى جانب التربية الصارمة التي تلقّاها لدى والِده في البيت، حظيَ بتنشئةٍ عميقة في الأزهر، في عشرينيات القرن الماضي. ثم كان من ألمع مَن التَحق بمدرسة العلوم العليا التي تخرّج منها سنة 1945، ليتنقَّل إثر ذلك بين التعليم الجامعي ورئاسة قسم اللغة العربية والنشاط المعرفي في "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة، بفضل ما ناله من شهرةٍ في تحقيق عيون التراث. فقد كان هارون، منذ شبابه، مولعاً بضبط النصوص القديمة وإخراجها، حتّى أنه حقق "مَتن أبي شجاع" (1138-1196م)، في الفقه الشافعي، ولمّا يتجاوز السادسةَ عشرة، وأخرجَ الأجزاء الأولى من "خزانة الأدب" للبَغدادي (1620-1682)، وله فقط عشرون ربيعاً.
ولذلك اختاره طه حسين، سنة 1943، ليكون عضواً في "لَجنة إحياء تراث أبي العلاء المَعرّي" التي أصدرت خمسة مجلدات من شرح ديوان "سقط الزند". وازدادت شهرته حين سخَّر جهوده لتحقيق آثار الجاحظ (780-868)، ولا سيما "الحيوان" و"البيان والتبيين" و"الرسائل"... كما كان له إسهامٌ لافت في إخراج المعاجم القديمة إخراجاً متيناً، فَإليه يعود فضلُ تحقيق "مقاييس اللغة" لابن فارس و"صِحاح" الجَوهري و"تهذيب الصحاح" للجُرجاني و"تهذيب اللغة" للأزهري، إلى جانب الإشراف على طبع "المعجم الوسيط"، الذي أنْجِزَ في عَصرنا.
وبصَبر دؤوبٍ، خاض الرجل غمارَ المخطوطات في علوم التاريخ والنحو واللغة وسائر أفنان المعارف الدينية مثل "سيرة ابن هشام" و"إحياء" الغزالي، كأنّما بَعَثَها بعد ممات. وإلى جانب نشاطه في التحقيق، ألَّفَ هارون كتباً مستقلّة حول مسائل التراث، مثل دراساتِه عن البحتري وابن منظور وابن خلدون. وهكذا، فإليه يعود الفضل في إظهار ثروات التراث الفكري العربي وما يتضمّنه من كنوزٍ خفيَّة.
وأما منهجه في العمل فخُطوات متّسقة: فهو يطّلع أوّلاً على المخطوطات والمطبوعات التي تعود للنصّ الذي يودّ العمل عليه. ثم يتخيّل بعدها الصورة النهائية التي يريد إظهارَ ذلك النص من خلالها، ثم يحققه تبعًا لذلكَ. ويبتدئ هذا العمل التحقيقي بالحصول على المخطوطات المتناثرة في المكتبات العامة، وربّما دفع النفيس لاجتلابها. ثمَّ يحدد تواريخ تقريبية لهذه النسخ باعتماد نوعية الخط، فكل خطٍّ لديه تاريخٌ وقصَّة، بل لكلّ حرفٍ طريقةٌ في الكتابة تطوّرت عبر الزمن.
وهكذا، يعيِّن هويّة الخط وزمنَ كتابته بالاعتماد على الخصائص التي استَخلصها من طويل معاشرته للنصوص ومساكنته لرسومها. وقد يلجأ إلى إكمال النص المُحقّق بالبحث عمّا تناثر من أجزائه في بطون المصادر الأخرى، حتى يقدّم صورة كاملة عنه. وفي النهاية، يَضع له فهارس الآيات والأحاديث وأسماء الأعلام واللغة والأشعار والأراجيز والبلدان والقبائل...
وهكذا، كان الرّجل على علمٍ بما تحويه بطون المكتبات الخاصة قبل أن تستحوذ على بعضها حكومات ما بعد الاستقلال، فقد كان لسائر بيوتات العرب الكبرى في مصر وحلب والمغرب العربي، وفي تركيا، خزائن شخصية، يعود بعضها إلى قرون، فيها نفائس المخطوطات والآثار. فكان يراسل أصحابَها ليمدوه بصور عنها وعن المطبوعات من أجل إجراء المقارنات الضرورية والتعرف على كل كلمة. كما كان يقارنها بما يرد في "كاتولوغات" المَكتبات التي دأب على وضعها آنذاك بعض المستشرقين لتسهيل البحث عن المخطوطات.
وكان هارون يقدّم لأعماله ليبيّنَ إن كان الأثر قد نُشر من قبل وأين أم لا، وليَذكرَ المظان التي وجدَ فيها نُسَخها، ولذلك كان الرجل على اطِّلاع دقيق بما سبق وأن نشره المستشرقون، فيردّ عليهم ويتعقّب أخطاءَهم بثقة واقتدارٍ، من دون أيّة عقدة نقصٍ طالما اعتَرَت مُجايِليه من الباحثين العرب. ولابد من التنويه هنا بما كان من تعاونٍ بينه وبين قرينه المستشرق الفرنسي شارل بِلا (1920-1992) الذي خصّص معظم إنتاجه للتعريف بأدب الجاحظ وتحقيقه وترجمته إلى الفرنسية.
ولا تكمن أصالة الرجل فيما أخرج للنور من نصوص تراثية، فبَعضها سبق وأن أظهرها غيره، وإنّما في الحياة الجديدة التي كان يَهبها لأثرٍ ما بعد أن يُضاعِف، بشكلٍ ملموسٍ، حظوظَ قراءته ومدار شيوعه بين الناس، بعد أن يسوّيه وليدًا متكاملاً واضح المعنى يسيرَ المأخذ. إذ لا ننسى أنّ أيدي بعض النسّاخ القدامى قد جالت في النصوص القديمة عبثًا، فحوّرت تراكيبَها ومعانيها وأحالتها إلى لا شَيءٍ. فكم من سوء فهم حصل بسبب أخطاء الرسم التي ارتكبتها أيادي الهواة من الكَتَبَة ومن المحققين بعدهم، فكان له الفضل في إرجاع المعنى إلى صورته الأصلية وردّ المعقولية إليه.
كما تمكّن عبد السلام هارون من أن يبزَّ أقرانَه من المستشرقين والمستعربين الذين كانوا يتباهون بإصدار أمهات كتب التراث على الطريقة العلمية، وغالباً ما كانوا ينتقدون أعمالَ زملائهم العرب لأنّها غير منهجية. فبيَّن، وبجدارة كاملة، قدرةَ بني ثقافته على التحقيق العلمي للمخطوطات وعلى إخراجها في أجمل حلّةٍ تُراعي معايير النقد الفيلولوجي، وهو ما برَع فيه بفضل عمله الدؤوب: شرحاً للكلمات ومقارنة بين النسخ ووضعاً للفهارس التي تساعد على النفاذ لجوهر النص.
إنّ ما أنجزه "شيخ المحققين" ليس مجرّد إظهار لنُصوصٍ مفقودة، بل هو بثٌّ للحياة فيها وإخراجٌ لها من هُلامية الخطوط إلى انكشافِ الدلالة، من أجل إدراكٍ جديد لقيمة ذلك النص: وأجمل مثالٍ على ذلك تراث الجاحظ الذي فَقَدَ صداه، طيلة قرون الانحطاط، وعاد بفضل هارون عيناً من عيون الإحياء العربي: فيلسوفاً مؤمناً بأولوية الشك والعقل وأديباً موسوعيّاً، بل وينبوعًا للمفكرين والأدباء العرب المحدثين يغترفون من نصوصه التي باتت متاحة بفضل جهود هارون الممتدة طيلة حياته: "فإنّي لم أفارق آثارَ أبي عُثمان مُذ شَدَوتُ، ولا تزال تلكَ من هَمِّي وَوُكدي، ما بين قراءة فيها وتنقيح وتجلية وتصحيح، حتَّى أذيع منها بين الناس ما يَستطيعه الجهد ويسمح به الزمان".
كان عمل هارون أشبه برحلة في الزمن يعيد من خلالها الموتى - مجازياً - إلى حياةٍ، فنحسب بعضَهم من معاصرينا. رافقَت هذه الرحلةَ في الزمن حركةٌ في الجغرافيا، فكتب التراث متناثرة بين مناطق عدة من الأرض التي وصلتها الضاد وتعاليم الإسلام، وبذلك كان تحقيق نفائس النصوص يمرّ عبر معرفة المكتبات التي تختبئ على رفوفها، من الهند إلى مالي مروراً ببلاد فارس والشام وغيرها من الأمصار، فضلاً عما هو مخزون في المساجد القديمة والأضرحة التائهة في السباسب والصحاري، وهي آثارٌ تنتظر مَن يكتشفها ويحصيها، ليخرجها للنّاس نفائسَ مُحقَّقة. فربَّ نصٍّ يُكتَشف يغيّر وجهة الأبحاث وقد يكون تثويرًا لمعارفنا عن الماضي وعن المستقبل.